ماذا فعل "ربيع العرب" سوى إعادة الاستبداد بغطاء ديني؟





بقلم: رائد قاسم

يبدو أن ثورات الربيع في العالم العربي تعيد إنتاج الاستبداد، إذ أن كل من البرلمان التونسي والمصري تسيطر عليهما تيارات الإسلام السياسي، والمعروف إن الإسلاميين لا يعترفون بالديمقراطية كنظام بل كممارسة، وهذه نقطة مهمة لم يلتفت لها العديد من المراقبين، فالانتخابات في النظام الديمقراطي ليست سوى مظهر من مظاهر الديمقراطية، التي تقوم على منظومة الدولة الدستورية والمجتمع المدني والقوانين والثقافة المدنية، بينما معظم المجتمعات العربية تفتقر بشكل عام إلى هذه الأساس الحيوي والجوهري، حيث تسودها التنظيمات المذهبية والقبلية والطائفية، وتسيرها التيارات الحاكمة القائمة على نظم الاستبداد والمركزية والشمولية، التي تعارض بشكل تام الديمقراطية ومنظومة الدولة المدنية، وتنظر للديمقراطية باعتبارها ممارسة فرعية في ظل نظام مركزي حديدي ليس إلا.

وفي ظل سيادة هذه القوى المستبدة فانه عندما تمارس الديمقراطية في انتخابات السلطة التشريعية أو التنفيذية أو أي سلطات فرعية فإنها ستأتي بكل بساطة بهذه القوى، وهذا ما حدث قبل وبعد ثورات الربيع العربي، فالانتخابات جعلت الإسلاميين يمسكون بزمام أغلبية برلمانات مصر وتونس والبحرين والكويت والعراق، وبما إن الإسلاميين والأنظمة التي سقطت في مصر وتونس والعراق وغيرها من البلدان العربية خرجت من بيئة واحدة، فان النتيجة الحتمية هو إعادة إنتاج الاستبداد مرة أخرى ولكن بصورة مختلفة، وسوف يتمكن الإسلاميون من تأسيس أنظمة سياسية شوفينية إذا ما تمكنوا من السيطرة على السلطة التنفيذية والمؤسسة العسكرية في بلدانهم.

وتعتبر التجربة الكويتية مثالا على ممارسة الديمقراطية دون أن تتحول إلى نظام راسخ، فالبرلمان الكويتي لم يقدم للكويت أي انجازات يعتد بها سوى أزمات سياسة ومذهبية متلاحقة، وتراجع إنساني وحضاري واسع، ويكفي أن حقوق المرأة السياسية لم تقر إلا بعد أكثر من 40 عاما من الحياة النيابية! وفي السنوات الأخيرة بدا النواب ومعظمهم من الإسلاميين والقبليين المطالبة بإقرار الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للدستور، واسلمة القوانين والأنظمة والتشريعات وكافة نظم الحياة في الكويت. لقد أخفقت الكويت (بالرغم من وجود برلمان كامل الصلاحيات) في إحداث تنمية سياسية واقتصادية يعتد بها، وفشلت في إنشاء نموذج حضاري متطور، بالرغم من ثروتها النفطية ونظامها السياسي الأكثر حداثة وتطورا بين جيرانها.

والعراق أسوأ حالا من الكويت، فالبرلمان المنتخب جاء على خلفية الانقسامات والتكتلات الطائفية والمذهبية في العراق، والتي تعبر عن سقم خطير ينخر بسرعة في كيان الدولة العراقية.

والأخبار الواردة من مصر تصب في هذا المأزق الخطير، حيث تمارس الجماعات الإسلامية أنشطة مكثفة بغرض فرض أجندتها، بعد أن كانت مقموعة من قبل النظام السابق الذي تشترك معه في نزعات الحكم التولتاري (الآذان داخل البرلمان – إنشاء مؤسسة للزكاة- فرض الرقابة على المصنفات الفنية- الحكم على الفنان عادل أمام بالسجن). ومصر اليوم في وضع خطير حقا. والإسلاميون إن حدث وحكموا مصر على نهج الجمهورية المصرية الأولى فأنهم سوف يسقطونها في حفرة عميقة لن تخرج منها إلا جثة هامدة.

في إيران نموذج واضح لإعادة إنتاج الاستبداد، فلجان الانتخابات الرئاسية تستبعد معظم المخالفين للنظام الديني الحاكم، وحتى الإصلاحيين الذين يصنفون على أنهم من أبناء النظام يجرى استبعاد معظمهم (كما حدث في انتخابات 2009)، ومعظم الانتخابات على مراكز السلطة مقتصرة على المنتمين والموالين للنظام الديني، أما انتخابات ما يعرف بمجلس الشورى، فانه بعد استبعاد أكثرية الأسماء والشخصيات غير المعروفة بولائها للنظام، فان سلطات مجلس الشورى محدودة، وكافة تشريعاته لا بد من خضوعها لإشراف لجنة عليا مكونة من رجال الدين. ومن المعروف إن رئيس الدولة في إيران هو المرشد، وسلطاته بمثابة سلطات رئيس الجمهورية في دول العالم الثالث، ولا يخضع منصبه للانتخاب والتداول، أما رئيس الجمهورية فهو بمثابة رئيس للوزراء وسلطاته محدودة، وخاضع لإشراف المرشد، من ناحية أخرى فان قوانين شغل المناصب العامة والقبول للترشح للمناصب العليا والقيادية في الدولة الإيرانية تخضع لأعراف ومعايير دينية ومذهبية وطائفية وقومية، إضافة إلى اعتبارات الولاء للنظام الديني الحاكم في طهران وسلطات الولي الفقيه، لتصبح الانتخابات الإيرانية في نهاية الأمر مجرد اختيار لمن اختارهم النظام مسبقا!

إن الاستبداد والدكتاتورية ليست مقتصرة على الأنظمة السياسية العربية لكي يكون تغيير النظام السياسي هو الحل والعلاج، فالاستبداد نظام متكامل ومتداخل يشمل كافة الأنظمة المسيرة للبيئة العربية، وفي مقدمتها الأنظمة الدينية والاجتماعية والثقافية،، وتغيير النظام السياسي من دون إصلاح للبيئة التي هو جزء منها ويتحرك في محيطها يعني بكل بساطة عودة الاستبداد، لأنه موجود في تربتها ومائها وهوائها، تماما كما لو أن لدى المزارع أرضا لا تنتج سوى البصل! فلو انه حاول زرع البرتقال والتفاح فيها لما أثمرت، ولا بد له إذا ما أراد زرعها أن يستصلح أرضه ليتمكن من زرع الفاكهة، وإلا فانه لن يحصد سوى البصل!

في البحرين كلنا سنعرف ما الذي سيحدث لو أمسكت المعارضة بالسلطة! سوف تسقط هذه الدولة العربية الخليجية في بئر عميقة وسوف تدمر كافة انجازاتها، فما يحدث اليوم في العراق وإيران ومصر وتونس سيمتد بسرعة كبيرة في البحرين، وسوف تصبح البحرين إقطاعية لاستبداد آخر وبهتان آخر أكثر قسوة وطغيانا ممن سبقه، وبعدها سيكتشف الشعب البحريني كم كان أسير وهم كبير، ولكن بعد فوات الأوان.

إن البيئة العربية متخلفة إنسانيا وحضاريا على مختلف المستويات قياسا بالبيئة الغربية الأوربية والأميركية، فمع انهيار الحضارة العربية وسقوط قلاعها المنيعة في بغداد وقرطبة ساد في العالم العربي الدولة الإقطاعية والتيارات الدينية المتشددة، وانعدم التطور والازدهار العلمي والثقافي الفكري والاجتماعي، وساد التخلف الشامل والواسع على مختلف الأصعدة والميادين، بينما كانت المجتمعات الغربية تتطور بسرعة كبيرة وتنهض نهوضا مدويا لم تعرف له مثيل من قبل، وتمكنت بكل جدارة وبعد تقديمها للتضحيات الجسام من إحداث تغييرات بنيوية هائلة على بيئتها وتغيير شامل لأنظمتها المركزية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية.

في المقابل فان العالم العربي ظل يرزح تحت وطأة الأنظمة الإقطاعية السياسية والدينية، وعندما تعرض للاستعمار من قبل القوى الكبرى في ذلك الوقت، عمدت إلى استنزاف ثرواته الطبيعية (وهو الهدف المحوري من الاستعمار بطبيعة الحال) ولم تخلف ورائها إلا النزر القليل من أنظمتها المتقدمة وغادرتها وهي في قمة تخلفها وانحدارها، وظلت الشعوب العربية تعاني من سيادة نظم الاستبداد والدكتاتورية في مختلف المجالات والاتجاهات.

وعندما حاولت الولايات المتحدة فرض الديمقراطية على العراق كانت النتيجة عكسية، وكان هذا من اكبر أخطاء الإدارة الأميركية، فقد تعاملت مع الديمقراطية في العراق وكأنها وصفة طبية، ما على المريض إلا الالتزام بها! فكانت النتيجة أن إسقاط الديمقراطية وفرض نظام سياسي متطور في بيئة غير صالحة أدى إلى سيادة المرجعيات والهويات الدكتاتورية في البيئة العراقية، وصعود قوى الاستبداد والهيمنة، وترسيخ لشرعية التيارات المذهبية والطائفية والقومية والعرقية وتعزيز لسلطتها، ما أذى إلى خطفها للدولة العراقية وتحويلها إلى ساحة للصراعات والنزاعات التي لا تنتهي على حساب الكيان السياسي العراقي، ما ينذر بتفكك العراق وانهياره كدولة مثلما حدث للسودان في الأمس القريب.

إن الثورات العربية لن تخرج عن هذا الإطار، فالشعوب ثارت على أنظمتها السياسية، التي هي نتاج بيئتها التي تعيش فيها، فحسني مبارك والقذافي وزين العابدين لم يأتوا من المريخ ولم يولدوا في الغرب أو الشرق، بل تربوا وعاشوا في مجتمعاتهم وبين شعوبهم، وهذه الأنظمة التي سقطت أو التي ستسقط لن يكون بديلها سوى نسخة أخرى منها وان كانت في صورة مغايرة، لان البيئة واحدة ولا بد إن تكون مخرجاتها واحدة، ما لم تجر إصلاحات حقيقية وعميقة وجوهرية على البيئة المصرية والتونسية والليبية، يكون من أولوياته إنشاء نظام سياسي ديمقراطي حقيقي يستند على ثقافة ووعي اجتماعي نافذ ونظام دستوري مدني حقيقي.

لا مخرج من نفق الاستبداد وضمان عدم عودة الأنظمة الدكتاتورية إلا بإصلاح ثوري يأخذ مداه ليتغلغل كالطوفان في البيئة العربية، ويدار بقبضة من حديد، ومن خلاله تفرض الإصلاحات على البيئة المركزية فرضا، وتفكيك بناها الإقطاعية وهوياتها الفرعية، وتدمير كافة القوى الفيروسية والبكتيرية والطفيلية التي تعيث فيها، حتى يمكن تهيئة البيئة العربية وزراعتها بآخر منتجات وابتكارات الفكر البشري، لتنهض الشعوب العربية وتتحرر من الاستبداد والطغيان والدكتاتورية وكافة القوى التي تكبل حياتها وتمنعها من العيش كما أراد الله لها كريمة وحرة على خطى التوحيد والإنسانية.(ميدل إيست أونلاين)

شارك على جوجل بلس

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق