ثقافات العالم تجتمع في "إليفن" عراقي




السليمانية (العراق) - "قبو البصل رطب أشبه بنفق طويل بارد (...) وتوجد فيه مدفأتا حديد كبيرتان. لم يكن في تصميمه الأساس قبواً، لذلك نرى شباك قبو البصل الوحيد لا يشبه شبابيك الأقبية، بل هو أشبه بشباك لشقة أرضية"، مقطع من قصة "قبو البصل" للكاتب الألماني غونتر غراس التي ترجمها سامي الأحمدي في بغداد عام 1987.

الوصف وتفاصيل المكان التي يسهب فيها غراس في قصته، التي كانت من أول الأعمال التي تترجم من الألمانية في العراق، تشبه إلى حد كبير جوانب مقهى "إليفن" (أحد عشر) في قلب السليمانية شمالي العراق، والذي -كما هو الحال في القصة الألمانية- أصبح ملتقى للمثقفين والفنانين والصحفيين والكتاب ورجال الأعمال والمحامين. الصناديق والمقاعد الخشبية تذكر من قرأ القصة بالصناديق الخشبية التي توزع عليها شخوص غراس جلوساً في أنحاء "قبو البصل".

وإذا كان أبطال القصة الألمانية يزورون المكان ليس لشيء، سوى لدفع ثمانين فينكاً من أجل تقطيع البصل والحصول على فرصة "للبكاء بصمت. إنهم يبكون بحرقة وبلا رادع. يبكون بمليء الحرية، حيث يتصدع السد بفيضان عارم" من الدموع على ما فقدوه في حرب، خلفت الدمار في كل شارع في ألمانيا ومأساة أو أكثر في كل منزل فيها، فإن ضيوف "إليفن، الذين يعرفون بعضهم بعضاً في الغالب وينتمون إلى ثقافات مختلفة، ينشغلون حتى ساعات متأخرة بتبادل الآراء حول المصاعب التي يمكن أن تعترض أحدهم في عمله أو خططه لمشروع فني. وبتنوع الثقافات التي ينتمون إليها تأتي الآراء متنوعة هي الأخرى، فكل منهم يطرح رؤيته من منظور الثقافة والمجتمع التي ينتمي إليها.

لا شي يذكر بالحرب

في أرجاء المكان انتشرت خوذ عسكرية تعود لإحدى الحروب التي مر بها العراق، لكنها ملئت بالتراب لتستخدم كأصص للنباتات. الخوذ الشيء الوحيد الذي يذكر بالحرب في مكان يعمه الأمن والسلام، مقارنة ببقية أجزاء العراق.

على واجهة المقهى، وهو بيت بُني في سبعينات القرن الماضي على الطراز البغدادي إلى حد بعيد، عُلقت لوحتان تحملان عبارات باللغة الانجليزية، في الأولى كُتب بلون زيني أزرق "مركز ميترو للدفاع عن الصحفيين"، والثانية من الرصاص، تحمل اسم المقهى لتمييزه عن البيوت المجاورة له وسط الحي السكني في شارع سالم.

ليزا هيليكه، باحثة ألمانية في مجال البيئة تعمل في كردستان العراق، ترتاد مقهى "إليفن" بصورة مستمرة أيام العطل الرسمية "لقضاء أوقات ممتعة" مع أصدقائها من الجنسيات المختلفة، كما تقول.

 وتضيف "أفضل قضاء أيام استراحتي في هذا المقهى، الذي اعتبره بيتي الكبير"، مبينة أن أفراد عائلة هذا البيت يجتمعون على طاولة مشتركة من "الفن والثقافة".

وتقول هيليكه (29 عاماً)،التي جاءت من مدينة بوخوم الألمانية قبل ثلاثة أشهر للعمل كباحثة بإحدى منظمات حماية البيئة في محافظة السليمانية "الشيء الجميل في هذا المكان هو أن رواده تجردوا عن الحديث عن السياسية، واهتموا بمناقشة مشاكلهم الشخصية وسط جو يسوده التفهم".

بعيداً عن السياسة والمواقف المتشنجة

نوينر فاتح احمد صحافي كردي يعمل في إحدى المواقع الالكترونية بمحافظة السليمانية ويقصد المقهى هو الآخر بصورة مستمرة نهاية كل أسبوع، لمشاركة أصدقاء المهنة من الجنسيات المختلفة طاولة تبادل الأفكار والمعلومات مع فنجان القهوة عند المساء.

يرى نوينر أن فكرة المقهى "رائعة وفريدة من نوعها مع تقابل مواطني الشرق والغرب، بروح محبة خالصة بعيدة عن مواقف دولهم السياسية المتشنجة تجاه بعضهم البعض".

ويضيف نوينر (22عاماً)، الذي جاء مبكراً لحجز طاولة تتسع لأصدقائه الأربعة في المقهى "من الرائع جداً أن تطلع على الثقافات المختلفة من خلال الحديث مع أصدقاء مختلفين تماماً عن لغتك وثقافتك، فهذا المكان بالنسبة لي يعتبر حلقة الوصل مع مواطني الغرب، الذين غابوا عنا زمناً بسبب الحروب التي مر بها البلد".
وعاش العراق في عزلة دولية تامة خلال العقود الثلاثة المنصرمة على خلفية الحروب التي خاضها نظام الرئيس السابق صدام حسين، فضلاً عن الحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية التي فرضت على العراق.

"أشعر بسعادة كبيرة عند زيارتي هذا المكان"، تقول الصحافية الأميركية ديلود مسفين، معللة ذلك بالقول إن"المقهى يضم رواداً يتنوعون ثقافياً وعرقياً ودينياً (...) الكل يتصرف هنا بروح المحبة والسلام بعيداً عن التعصب".

وبعد أن تنتهي مسفين (25 عاماً) من الحديث مع نادل المقهى الذي ارتدى قميص النادي الألماني "بايرن ميونخ"، تلتفت قائلة "تكمن خصوصية المقهى في التعامل اللطيف والتعارف بين رواده مع وجود الأعمال الفنية والتراثية التي زينت أروقته".

إقبال كبير من قبل"محبي الفن"

ويقول جمال بنجوين (31عاماً)، وهو صاحب مقهى "إليفن" إن "محبي الفن هم أكثر رواد المقهى، والذين يأتون للتجول في أروقة مقهاي لمشاهدة ما يحتويه من لوحات وتحف فنية"، مشيراً إلى أن"الإقبال على المقهى يزداد في أيام الجمعة".

أما عن فكرة تصميم المقهى بهذا الأسلوب الغريب على البيئة التي أُقيم فيها، فيقول بنجوين الذي بدا منشغلاً بعض الشيء بتوزيع الشموع على الطاولات "لكل إنسان فكرته ولوحة حياته الخاصة به والتي يرسمها بفرشاته وإبداعه. وكوني مصوراً فوتوغرافياً ومصمماً فنياً قررت أناصب خيالي في بناء هذا المقهى الفني والفريد من نوعه".

ويضيف "طريقة تصميم المقهى وأدواته كالطاولات والكراسي الخشبية وغيرها قد امتزجت مع الفن بأسلوب بسيط"، مبيناً أنه بتلك الرؤية الفنية نال المقهى "إعجاب الجميع" من خلال "الإقبال الجيد عليه".(دويتشه فيلله)
شارك على جوجل بلس

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق