قنبلة موقوتة.. التحرش والاستغلال يطارد أطفال الشوارع بتونس




تونس - يعرض بحري ومحمد مناديل ورق ولعب للأطفال على أصحاب السيارات في أحد الشوارع المكتظة بمنطقة باب عليوة في قلب تونس العاصمة على جانب مدخلها الجنوبي.

بحري ينحدر من  منطقة النفيضة بمحافظة سوسة السياحية المشهورة، انقطع عن الدراسة في سن الثانية عشرة ليساهم مع أباه في إعالة عائلتهم وفيرة العدد.

يقول بحري إنه يسكن ورفيقه محمد الذي يصغره بسنتين في أحد فنادق العاصمة رخيصة الثمن التي يسميها التونسيون "الوكالة". ويدفع بحري ومحمد قرابة 60 سنت/ يورو لليلة الواحدة. ينام بحري ومحمد على حشايا في غرف جماعية قد تأوي ثلاثة وأربعة أنفار وقد تصل إلى ستة وثمانية فرش.

يجني محمد وبحري القليل من المال من عملهما في شوارع العاصمة. ويمضون يومهم في الجري بين السيارات يستجدون الناس لشراء بضاعتهم. ترى في وجوههم براءة الطفولة وحزنا عميقا يلاحظ في عيونهم من النظرة الأولى.

عندما سألنا بحري عن الأسباب التي دفعته للعمل في شوارع العاصمة، أجاب أنه يُعين أباه على هموم الزمن. وأبى محمد أن يجيبنا على أسئلتا واكتفى بالسكوت وهو يداعب طائرة ورقية يعرضها للبيع على المارة ويمسك باليد الأخرى طائرة أخرى.

وإذا كان بحري ومحمد يبيعان مناديل ورق ولعب فغيرهم من الأطفال، حسب الدراسات الاجتماعية، يعانون الإدمان على التدخين والكحول ويستنشقون "المواد اللاصقة".

 وتحاول الدولة الحد من هذه الظاهرة إذ تقوم بحملات أمنية منتظمة، انطلق العمل بها في شهر نسيان/أبريل الحالي لإيقاف أطفال الشوارع وإيداعهم مؤسسات الرعاية أو إرجاعهم إلى عائلاتهم.

الدولة تتعهد بأطفال الشوارع

وتشير آخر إحصائيات مندوبي حماية الطفولة، المنظمة التي تسهر في تونس على رعاية الطفولة المهددة بالإهمال والتشرد والاستغلال أن هناك أكثر من خمسة آلاف طفل يعاني من الإهمال أو التشرد.

ويشكل التقصير الواضح والمتواصل في التربية والرعاية أهم أصناف التهديد تليها مسألة عجز الأبوين عن رعاية أطفالهم. التعرض للإهمال والتشرد من أهم التهديدات التي تعترض هذه الشريحة من الأطفال.

وتقول الإحصائيات إن فقدان الطفل لوالديه وبقاءه دون سند عائلي واعتياد سوء معاملة الطفل والاستغلال الجنسي أو الانخراط في الإجرام المنظم وتعريضه للتسول أو استغلاله اقتصاديا تشكل أهم الأسباب التي تدفع الأطفال للالتجاء للشوارع.

و تُظهر إحصائيات رسمية أن الدولة تعهدت سنة 2011 بـ3 آلاف و647 طفلا من كلا الجنسين. ويمثل التقصير البيّن في التربية وعجز الأبوين عن رعاية أطفالهم وحالات الفقر السمة الأساسية لحالات التعهد التي أقرها مندوب حماية الطفولة.

زرنا "المركز المندمج للطفولة" بمدينة مرناق بمحافظة بنعروس جنوب العاصمة تونس، وهو عبارة عن منزل قديم جدا من الطراز المعماري لحقبة الاستعمار، سكنه لسنوات الشاعر بيرم التونسي ثم أحد المعمرين الإيطاليين، وقد حافظ المكان على بعض الجمالية رغم الإضافات التي أدخلت عليه.

تتوسط بناية الإدارة الأجنحة الخاصة بالسكن والمطعم والنوادي. وتأوي دار رعاية الأطفال بمرناق حوالي 38 طفلا مقسمين إلى ثلاثة "وحدات عيش"، بلغة الساهرين على الدار، واحدة للإناث وأثنين للذكور. ووحدات العيش عبارة عن فضاء متكامل يتوفر على كل الخدمات من غرف نوم وقاعة جلوس وفضاء للدراسة والمراجعة ومطعم ودورات مياه. وترعى الأطفال بكل وحدة عيش، مربية وفرت لها الدولة سكنا لها ولعيالها ملاصقا لسكن الأطفال الذين تتولى رعايتهم ويفضي لمختلف فضاءات سكنهم.

 وتحاول المربيات لعب دور الأم الطبيعية لتعويض الحنان والعطف الذي يفتقده الصغار في فضاءات باردة ومتشابهة رغم حرص الإدارة على أن تكون حميمية أكثر وأن تشبه دفء العائلة.


 و يقول محمد الهادي بن علي مدير الدار إن مؤسسته تحرص على أن توفر للأطفال رعاية شاملة من سكن وملبس ومأكل وصحة ومتابعة دراسية وتكوين وترفيه.

 ويضيف أنه يحرص وفريق عمله على أن تكون الإقامة ظرفية وقصيرة قدر الإمكان لأن حنان العائلة لا يمكن أن تعوضه مؤسسات الرعاية.

وإلى جانب المقيمين، يتردد على الدار عددا من الأطفال من "وسطها الطبيعي" من سكنة المنطقة من الفقراء وفاقدي المعيل، والعائلات ذات الولي الواحد بفعل اليتم أو الطلاق. حيث يوفر لهم المربّون هناك مختلف الخدمات ويحظون بمرافقة متواصلة داخل وخارج المؤسسة لدى عائلاتهم.

وتبيّن المختصة الاجتماعية سندس صيود أن أكثر الأطفال المترددين على دور الرعاية هم من أبناء العائلات الفقيرة أو ذات الولي الواحد نتيجة الطلاق أواليتم أو الفراق، إلى جانب المواليد خارج الأطر القانونية للزواج.

وتؤكد سندس صيود أن مراكز الرعاية تحاول انتشال الأطفال المهددين بالاستغلال المادي أو الجنسي أو التشرد داخل عائلاتهم أو وسطهم الاجتماعي وتوفر لهم الرعاية إلى حين انتفاء أسباب التهديد.

جمعية قرى الأطفال بقمرت

و تعاضد بعض الجمعيات الأهلية الخيرية جهود الدولة لرعاية الأطفال فاقدي السند. وتعتبر جمعية قرى الأطفال بقمرت المعروفة في تونس بـ "آس أو آس قمرت"، من أقدم الجمعيات التي ترعى الأطفال المهددين وفاقدي السند والمولودين خارج أطر الزواج الرسمي.

و توفر الجمعية إيواء وحماية للأطفال تتماشى واحتياجاتهم النفسية والعاطفية، إذ ترعى كل ثمانية أطفال  مربية تعلب دورالأم، تخصص وقتها ليلا ونهارا لرعايتهم داخل منزل مستقل بهم داخل القرية المكوّنة من عدد من المنازل.

ويعيش الصغار داخل عائلتهم طيلة فترة إقامتهم بالقرية. وتطلق الجمعية سنويا حملات لجمع التبرعات و لتبني الأطفال ورعايتهم وتبلغ كلفة تبني طفل قرابة 15 يورو و تبني عائلته كاملة 400 يورو في الشهر.

وأسست الجمعية فروعا لها بعدد من الجهات توفر نفس الخدمات للأطفال فاقدي السند والمهديين بالتشرد.

الرعاية النفسية وفشل المنظومات الحكومية

ويرى المهتمون بشؤون الأسرة ورعاية الأطفال فاقدي السند في تونس أن منظومات الرعاية التونسية تركز اهتمامها على الطفل خارج إطار عائلته الطبيعية وتحاول تكوينه نفسيا واجتماعيا كمواطن سوي، إلا أن ارتفاع أرقام الفشل المدرسي بين أطفال مؤسسات الرعاية يبيّن بما لا يدع مجالا للشك فشل المنظومة التونسية لرعاية الأطفال المهددين.

وتقول الأخصائية النفسية سكينة وسلاتي أن هناك صعوبات حقيقية في إدماج الأطفال "بالمراكز المندمجة للطفولة" وتبين أن الساهرين على هذه الدور يحاولون الإحاطة بالأطفال ورعايتهم وتعويض الأم والأب، إلا أن هناك عوائق حقيقية نفسية واجتماعية في تعويض العائلة.

و تقول سكينة لتوضح مكانة العائلة لدى الطفل داخل دور الرعاية أن الاختبارات النفسية التي تجريها عادة خلال عملها على غرار "اختبار الأمنيات" تبرز أن أجوبة أطفال المراكز المندمجة وأمنياتهم تتمحور أساسا حول العائلة و الوالدين.

وتضيف الأخصائية النفسية أن الطفل يبقى مشتتا بين عائلته ومحيطه ومؤسسة الرعاية التي تأويه، وتوضح أن الفشل الدراسي لأغلب الأطفال، إذا ما استثنينا فاقدي السند تماما والأطفال الفقراء، يعطي الدليل على فشل المقاربة الحالية لرعاية الطفولة. وترى سكينة وسلاتي أن نجاح عملية الرعاية النفسية وبناء شخصية متوازنة للطفل رهين بإعادة النظر في علاقة العائلة بمؤسسة الرعاية.(دويتشه فيلله)
شارك على جوجل بلس

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق