بقلم: ماجد
كيالي
لم تظهر "الأقليّات"
في العالم العربي، بوصفها تعبّر عن كتل اجتماعية متمايزة من نواح إثنية/قومية أو
دينية، مع اندلاع الثورات الشعبية العربية، مع التحفّظ على معنى هذا المصطلح،
ومحدّداته، وذلك ببساطة لأن هذه الكتل لم تهبط بالباراشوت، ولأن الأفراد الذين
تتشكّل منهم هذه الأقلّيات هم من مواطني هذه المنطقة، وليس لهم وطن أمّ آخر؛
باستثناء بعض أقلّيات تشكّلت عبر هجرة أقوام معينة، في أزمان قريبة، ولأوضاع
سياسيّة بعينها (الأرمن والشركس والتركمان مثلاً).
هذا يعني،
أولاً، أن ظهور "الأقليّات" على شكل مشكلة إنما يرجع إلى ظروف سياسية
واجتماعية محدّدة مرّت فيها هذه المنطقة، في بعض حقبها التاريخية، فقد ظهرت هذه
المشكلة في القرن السادس عشر مع محاولة بعض الدول الأوروبية إيجاد موطئ قدم لها في
الإمبراطورية العثمانية المترامية، عن طريق حمايتها لبعض الطوائف الدينية، ثم ظهرت
مع محاولات سلطات الانتداب الاستعماري تطبيق انتهاج سياسة "فرّق تسد" بين
مواطني البلدان المستعمرة. وبديهي أن هذه المشكلة تفاقمت مع ظهور أنظمة حكم تأسّست
على الاستبداد والفساد والحؤول دون قيام دولة مواطنين، وضمن ذلك التلاعب
بالمكوّنات الاجتماعية في البلد المعني لفرض هيمنتها وتكريس سلطتها، بإضعاف
مجتمعها، ووضع مكوّناته في مواجهة بعضها، تحسّباً من اصطفافها في مواجهة سلطتها. وثانياً،
فإن هذا يعني أن المعطى الديني أو الإثني/القومي في الحديث عن الأقلّيات إنما هو
ناجم عن النظم التسلّطية في بلداننا، التي تعتبر هي المسؤولة عن تعثّر قيام الدولة
باعتبارها دولة مؤسّسات وقانون مواطنين، وعن تعثرّ الاندماجات الاجتماعية التي
تحيل "الرعايا"، أي المواطنين المفترضين، إلى شعب، تجمعهم علاقات
المواطنة، في وطن محدّد، على أساس عقد اجتماعي بين الدولة والمواطنين الأفراد،
والأحرار، والمتساوين أمام القانون، بدون تمييز من أي نوع، وليس مع كتل اجتماعية
منمّطة على أساس طوائف دينية أو جماعات إثنية (حالة لبنان مثلا).وثالثاً، هذا يفيد
بأن وسم مجموعة ما من المواطنين، في بلدان العالم العربي، باعتبارهم "أقلية"
غير صحيح، ومزيّف، ومصطنع، وله استهدافات سياسية/سلطوية، ولا ينسجم مع مفهوم
المواطنة والدولة الحديثين. هذا ينطبق على المواطنين من أتباع الديانات، وضمنها
المذاهب المسيحية واليهودية وغيرهما، كما ينطبق على المواطنين من أتباع الإثنيات
أو القوميات الأخرى، الذين ليس لهم وطن أمّ آخر، كمثل الأكراد في سوريا والعراق
والأمازيغ في دول المغرب العربي والأفارقة في جنوبي السودان.
ربما هذا
المصطلح يصحّ فقط على الجماعات التي وفدت من بلدان أخرى مجاورة إلى البلدان
العربية في حقبة ما، وتوطّنت فيه، مع التأكيد بأن ذلك لا يحول دون منح أفرادها
الجنسية والمواطنة في بلدانها، لأنها جاءت وتوطّنت أصلاً قبل تأسيس الدول المعنية (حالة
الأرمن والشركس والتركمان مثلاً).
نخلص من كل
ذلك إلى التوضيح بأن مصطلح "الأقليات" هو مصطلح إشكالي ونسبي ووظيفي، من
الناحية العملية، لأن أيّة "أقليّة" لا تكون كذلك من نفسها، ولا من
زاوية رؤيتها لذاتها، ولا تعرّف على هذا النحو إلا بالقياس إلى أكثرية ما،
وبالنسبة إلى موضوعات بعينها وفي ظروف محدّدة؛ ما يعني أن هذا المصطلح ينبغي أن
يؤخذ بدلالاته المتعيّنة والملموسة، الدينية أو القومية أو الاجتماعية، وليس على
النحو النظري البحت.
ففي
التجربة العالمية، وبما يخصّ الإحالة إلى الدين، مثلاً، فقد كان فيما مضى ثمة
مشكلة في كون فرد ما بروتستانتيّاً في فرنسا أو كاثوليكياً في بريطانيا أو ألمانيا
(وهذا ينطبق على اليهود في معظم بلدان أوروبا)، لكن هذا لم يعد له معنى اليوم، رغم
استمرار التعدّدية الدينية والمذهبية في هذه البلدان المسيحية، التي باتت تستوعب،
أيضاً، مسلمين يتحدّرون من قوميات عربية وغير عربية.
وهذا ينطبق
على دول آسيوية، فالهند والصين تضم كل منهما عشرات ملايين من المسلمين دون
اعتبارهم أقلّية، بل إن رئيس الدولة في الهند يمكن أن يكون مسلماً، وحتى في بلدان
تعتبر كإندونيسيا وماليزيا (وهما خضعتا للتجربة الاستعمارية واستقلّتا في نفس
الفترة التي استقلت فيها الدول العربية) ثمة مواطنون من أتباع الديانات المسيحية
والهندوسية والبوذية، دون اعتبارهم بمثابة أقلّية.
أما بما
يخصّ الإحالة على خصوصيّات وتمايزات قومية أو عرقية أو ثقافية فربّما لا يوجد في
العالم بلد لا يحتويها، وهذا يشمل دول الاتحادين الأوروبي والروسي والولايات
المتحدة والصين والهند وأستراليا وكندا والبرازيل والأرجنتين وجنوب إفريقيا، لكن
فقط في بعض بلدان العالم مازال ثمة مشكلات خطيرة وعنيفة تنجم عن ذلك؛ بخاصّة في
آسيا وإفريقيا (باستثناء مثال يوغوسلافيا السابقة والحالة القبرصيّة في أوروبا).
الآن، ومع
اندلاع الثورات الشعبية، في عديد من البلدان العربية، بات يتم إظهار "الأقلّيات"
باعتبارها مشكلة، ومع أن هذا الأمر لا ينبغي التهويل به لكن المطلوب، أيضا، عدم
الاستهانة به.
لكن لماذا
الآن؟ هذا لأن المجتمعات العربية كانت طوال العقود الماضية بمثابة مجتمعات مغلقة
ومهمّشة وفي حالة محو، وجاءت الثورات لتعيد الاعتبار لهذه المجتمعات، وتضعها كفاعل
على مسرح التاريخ، هذا لا يحصل فقط في مواجهة السلطة المهيمنة، وترجمة ذلك في شعار:
"الشعب يريد إسقاط النظام"، وإنما يحصل بانفتاح المجتمعات على بعضها، بطريقة
فجائية وعاصفة وعفوية.
والحال فإن
انفتاح المجتمعات على مكوناتها وتعرّفها على خصوصياّتها، وعلى مشتركاتها
واختلافاتها، والذي يحصل في مرحلة الثورة، على ما فيها من اضطراب ونزاعات ومنافسات
ونواقص، هو الذي يفسّر ظهور هذا الأمر باعتباره مشكلة أو على شكل صدمة. لكن حتى
هذه المشكلة وهذه الصدمة، على ما فيها من تعقيدات وصعوبات ربما تكون هي بمثابة
مرحلة ضرورية وإجبارية لتحقيق الاندماجات الوطنية، وصوغ الإجماعات الوطنية
مستقبلاً.
ماذا يعني
ذلك؟ هذا يعني وضع هذه المسألة في سياقها الحقيقي الموضوعي، ذلك أن تظهير "الأقليات"
كمشكلة (أو كصدمة) لا يقلّ في أهميته وصعوبته وتعقيداته عن اعتبار مسائل أخرى
كعملية الانتقال الديمقراطي والتحديث السياسي والتنمية وحقوق المرأة وتحقيق الفصل
الناجز بين السلطات، مثلاً، باعتبارها مشكلة ينبغي حلّها في إطار الثورات التي
تتوخّى حلّ كل هذه المشكلات، وتحقيق الحرية والكرامة للمواطنين.
ويعني ذلك،
أيضاً، أن المجتمعات العربية تعاني من مشكلة المواطنة، ومن تأخّر التمدين، بوجود
أقلّيات من عدمها، لأن الأزمة هي أزمة قيام الدولة والمجتمع والمواطن، وإذا سحبنا
ذلك على مسألة الأكثرية الإسلامية فسنجد هنا أيضاً ما يسمى أقليات مذهبية سنية أو
شيعية أو علوية أو درزية وغير ذلك كما ثمة داخل كل مذهب فرق دينية أخرى.
فقد أثبتت
تجربة البشرية بأن الدول التي تتأسّس على دستور يعترف بالمواطنين كأفراد أحرار
متساوين إزاء القانون دون تمييز بينهم على أساس الدين والمذهب والقومية والمعتقد
والعرق والجنس والمنزلة الاجتماعية، والتي يتأسّس نظامها السياسي على فصل السلطات
واحترام التنوّع والتعددية وتداول السلطة بالاحتكام لإرادة الشعب في صناديق
الاقتراع، هو النظام الأمثل لجلب الاستقرار والطمأنينة لأفراد المجتمع، والذي يمكن
أن يحوّل التنوع والتعددية والاختلاف بين المواطنين إلى حالة إيجابية تغني هذه
المجتمعات وتجعلها أكثر حيوية وإبداعاً.
إلى أين
يقودنا ذلك؟ هذا يفيد بأن دولة المواطنين الأحرار، الدولة الديمقراطية، والتي تقرّ
بحرية الرأي والتعبير، والتمثيل والتداول، ليس فيها ثمة أقليات وأكثريات دائمة،
ولا أقليات وأكثريات منمّطة بحسب العقيدة الدينية أو غيرها أو بحسب الإثنية أو
القومية، فالأقليات والأكثريات في هكذا دولة تتأسّس على مصالح المواطنين
الاقتصادية والاجتماعية وعلى ميولهم السياسية والثقافية والحزبية وفي هذه الدولة
لا يحقّ للأكثرية شطب حقوق أقلّية ما، أو طمس خصائصها، مهما كانت طبيعتها، بل ثمة
احترام لهذه الخصائص والحقوق الفردية أو الجماعية، باعتبارها تشكّل عامل إثراء
للمجتمع والدولة.
على ذلك
فإن الفارق بين دولة وأخرى لا يتمثّل في وجود تنوّع ديني ومذهبي وقومي وعرقي
وثقافي، من عدم ذلك، وإنما يتمثّل بطبيعة النظام الحاكم، والثقافة السياسية
السائدة في المجتمع، وبنوعية دستور وقوانين هذه الدولة.
بمعنى آخر
فإن مشكلة "الأقلّيات" عندنا لا تكمن في وجود كتل اجتماعية متعدّدة
ومتباينة، وإنما في تعثّر قيام الدولة باعتبارها الوعاء المفترض لخلق الاندماجات
المجتمعية، ونقل المواطنين من حيّز الانتماءات ما قبل المدنية، على نحو الانتماء
إلى عشيرة أو طائفة دينية أو أرومة قومية أو عرق أو جنس أو معتقد، إلى حيّز
الانتماء إلى مجتمع، وإلى شعب متعيّن في وطن محدّد لكن الشرط المؤسّس لذلك هو عدم
تعامل الدولة مع مواطنيها بطريقة جمعية منمّطة، على أساس الدين أو القومية أو
العرق أو الجنس، وإنما باعتبارهم أفراداً متساوين أمام القانون، وفي المعاملات وفي
المدارس والجامعات والجيش، بغض النظر عن خصوصّياتهم وتمايزاتهم.
ويستنتج من
ذلك بأن أنظمة الاستبداد والفساد، التي سادت في مرحلة ما بعد الاستقلال، والتي
تأسّست على الجيش والعشيرة، ليس فقط عوّقت قيام الدولة، بل إنها أسهمت، أيضاً، في
تكريس تشظّي المجتمع ما يتمظهر في بروز الانتماءات والعصبيات الطائفية والمذهبية
والقومية والإثنية، التي تحول بدورها دون تحرّر الفرد ودون ظهور المواطن كقيمة
عليا وكشخصية قانونية وسياسية وكصاحب عقد اجتماعي مع الدولة.
وللأسف فإن
ذلك يحصل حتى بالمقارنة مع مرحلة الانتداب الاستعماري (دون أن يعتبر ذلك مديحاً
لها) التي أسّست للوطنيات العربية المعاصرة، ووضعت القواعد اللازمة لقيام دولة
حديثة، وبناء جيش ومدارس وجامعات وتخطيط مدن، وصوغ دساتير وقوانين لا تمييز فيها
بين المواطنين، والتأسيس لحياة نيابية ديمقراطية.
لهذا كله
يمكن القول إن حديث الأقليات والأكثريات الدينية (ومعها الأقلّيات الإثنية)، في
معظم العالم العربي، هو بمثابة حديث مجازي، أو هو نوع من محاولة لاصطناع، أو تخيّل
سرديّة خاصّة خارج السردية العامة لتشكّل البلدان العربية والهويات الوطنية
لمجتمعاتها منذ بداية القرن العشرين، أي منذ الخروج من إسار الإمبراطورية
العثمانية؛ من دون أن تكون هذه الهويّة بالضدّ من العروبة الثقافية أو الحضارية.
كما يمكن
اعتبار هذه المحاولة بمثابة عمليتين متناقضتين إحداهما تتشكّل كردّة فعل على واقع
النظم الاستبدادية الشمولية، وثانيتهما تأتي كنوع من استجابة أو تواطؤ مع الواقع
الذي فرضته هذه النظم وسياسة "فرق تسد" التي تنتهجها لتكريس سلطتها.
والحال
فإذا كان هذا يصحّ على المواطنين نسبة إلى تعدّد واختلاف دياناتهم، وبدرجة أقل على
المواطنين من الإثنيات القديمة التي انصهرت في إطار الثقافة العربية، فإنه لا يصحّ
على بعض الجماعات "القومية"، التي تتشكّل كشعب، والتي لها لغتها
وسرديتها وهويتها الوطنية الخاصة، ويأتي ضمن ذلك الأفارقة في جنوب السودان
والأمازيغ في دول المغرب العربي والكرد في العراق وسورية (وكذا في إيران وتركيا).
مع ذلك فإن
وجود سرديّة وهوية وطنية عامة لكل المواطنين لا يعني بأية حال من الأحوال طمس
الهويات الفرعية، ولا الهويات الصغرى، التي يتشكّل منهما عموم المجتمع، فيمكن
للإنسان أن يكون تابعاً لأي مذهب إسلامي أو مسيحي، وأن ينتمي إلى أي جماعة قومية
أو إثنية وأن يكون في ذات الوقت سورياً، أو عراقياً، أو مصرياً أو مغربياً، تماماً
مثلما يمكن أن يكون هذا الشخص يسارياً، أو في أي من الاتجاهات الفكرية، وأن يكون
عربياً أو كردياً أو أمازيغياً وبنفس الوقت سورياً أو عراقياً أو مغربياً؛ ما يعني
أن مفهوم الأقليّة هو مفهوم سياسي ووظيفي وراهن لذا فهو لا يحول دون المواطنة، بل
إنه يغني معناها ويثري مبناها ويرسّخ مشتركاتها ووحدتها.
وعلى أية
حال فإن النظم الاستبدادية لا تعترف بالمواطنين وتعتبرهم رعايا، وهي تمايز بينهم
لأغراض التلاعب والتورية ولتأبيد واقع الحرمان والهيمنة، ما يتطلّب كسر هذا الواقع
وإقامة الدولة والمجتمع على أساس الفرد المواطن الحرّ.
قصارى
القول، لا حلّ لمشكلات الدولة والشرعية والمواطنة والأقليات إلا بالتأسيس للدولة
الديمقراطية المدنية (لا الدينية أو العسكرية)؛ هذا ما قالته تجربة البشرية مع ذلك
ثمة دول كثيرة لم تستطع تمثّل كل هذه الجوانب في نظامها السياسي لذلك فقد استطاع
العقل البشري ابتداع حلول أخرى سلميّة وديمقراطية، أيضاً، لمقاربة المشكلات
الناجمة عن بروز الخصائص الدينية أو القومية أو العرقية، كالحكم الذاتي أو الاتحاد
الفدرالي في إطار وحدة الدولة، ما يضمن مشاركة عادلة في الموارد وفي إدارة الحكم.
وربما يجدر
بنا أن نذكّر هنا بأن معظم الدول باتت تتبنّى النظام السياسي الفدرالي (بدون أن
يكون ثمة مؤامرة)، من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الروسي وألمانيا والمملكة
المتحدة وسويسرا وبلجيكا والصين والهند والبرازيل والأرجنتين والإمارات العربية،
لكن كلما كانت هذه النظم متماثلة مع الديمقراطية الليبرالية (أي التي تضمن حرية
المواطنين) كلما كانت أكثر استقراراً وأكثر قدرة على إدارة واستثمار مواردها بأفضل
ما يمكن.(ميدل إيست أونلاين)
0 التعليقات :
إرسال تعليق