الأرض الثابتة: لن نختبر الآخر إلا إذا تعايشنا معه




بقلم: محمود عبد الرحيم

الفيلم الإيطالي "الأرض الثابتة" للمخرج إيمانويل كيريليس الفائز بالجائزة الخاصة للجنة التحكيم في مهرجان فينسيا الدولي، واحد من الأفلام التي تتناول قضية الهجرة غير الشرعية لأوروبا من الجنوب، لكنه على خلاف الكثير لا يقوم بإدانة المهاجرين، ويتعاطى معهم بتعاطف، مستوعبا مأساة هؤلاء التي تدفعهم للمجازفة بحياتهم بحثا عن ظروف أكثر إنسانية.

وربما ما يميز هذا الفيلم كونه يقول الكثير بشكل مهموس دون ثرثرة أو ضجيج، وبلغة شاعرية مكثفة تمزج بين البساطة والعمق، فيما يعلي، في جانب الرسالة التي يطرحها، من قيمة الواجب الأخلاقي على الالتزام القانوني المفتقد للمشاعر والمتعسف، ويُغلب كذلك الحس الإنساني على ما عداه.

وربما يقصد المخرج بعنوان الفيلم القيم الأخلاقية التي يجب الاتكاء عليها ولا يجب التنازل عنها، مهما تغير الزمان أو المكان.

وقد بدأ بمشهد افتتاحي يهيئ المتفرج لأجواء الفيلم، ويفسر تعاطف أهل الجزيرة الايطالية مع المهاجرين الأفارقة، من خلال لقطة بانورامية للبحر المتلاطم الأمواج، وما به من مركب وشباك صيد، يبدوان حين ندخل إلى سياق الفيلم كرمز للحيرة بين اصطياد المهاجرين وتسليمهم للسلطات الأمنية أو انقاذهم، وطيور محلقة كما لو كانت في موسم الهجرة مثل هؤلاء الأفارقة، تبعها بلقطة لمركب غارق، ثم لقطة لعائلة إيطالية متشحة بالسواد تحي ذكرى أبنها الغارق في البحر، على نحو يبين لاحقا سر الخشية من تكرار هذا المصير لأي أحد بعد مكابدة ذات المأساة، على خلفية من موسيقى يغلبها عليها حس الترقب والآسى، وسط أجواء ضبابية تبرز هذا المعنى.

ولعب المخرج في بنائه الدرامي على تيمة الصراع المحتدم على أكثر من صعيد، وأكثر من شخصية، غير أن الانتصار في الأخير كان لصالح الواجب على المصلحة، والضمير على القانون، بدءا من الجد قبطان مركب الصيد الذي حين يرى مهاجرين غير شرعيين يبلغ خفر السواحل، لكن حين يراهم يقاومون الموت يسرع بإنقاذهم، بل وإيواء المرأة الحامل وأبنها الصغير في بيته، ويتحمل مضايقات السلطات التي تصل إلى إيقافه عن ركوب البحر أو تجديد رخصته، التزاما بمعايير أخرى غير التي يؤمن بها.

وزوجة الابن التي تبدي انزعاجا من مخالفة القانون، وتحمل عبء غرباء، ثم تتشارك مع الجد وأبنها في مساعدة المرأة الأفريقية على الوضع، كما لو كانوا أسرتها الحقيقية، وترعى رضيعها وتقدم لها الطعام، وبعد أن تلح في مغادرتها سريعا، وتجد وقت تهريبها أن الشرطة بالمكان تعيدها للبيت حتى لا يتم توقيفها.

وحتى الشاب الصغير حين يذهب في مغامرة بحرية مع الشابة السائحة المغرم بها، ويتقاعس هاربا عن نجدة مهاجرين جدد، يظل شاعرا بالذنب، ويسعى للتخلص من هذا الاحساس المؤلم، بمساعدة الأفريقية على الوصول لزوجها ولم شمل أسرتها، منتهكا الحظر على سير المركب، ومخاطر ركوب البحر ليلا.

ويبدو الصراع على مستوى آخر بين أخلاقيات المجتمع التقليدي أو بالأحرى عالم الصيادين الذي يجسده الجد، وأقرانه المتمسكين بمبادئ من قبيل عدم التخاذل عن نجدة المحتاج، أو التضامن الجمعي بين بعضهم البعض، وبين النسق القيمي للجيل الجديد البراجماتي الذي يمثله الأبن العامل في مجال السياحة، والذي يقدم المصلحة على الواجب، وتفضيل العمل في مجال الخدمات عن العمل البدني كالصيد، أو بين موقف سكان الجزيرة الذين يتوحدون مع المهاجرين ومشاكلهم، بينما القادمون من المدن الكبرى للسياحة بعضهم يفزع لمشاهدة الأفارقة، أوالتضايق من إفساد استجمامهم، والقليل يسعى لإنقاذهم من باب الشفقة.

ويبدو الفارق الثقافي جليا كذلك بين الشاب الصغير ساكن الجزيرة وبين أقرانه السياح، الذين يسعون للترفيه، بينما هو يسعى لاكتساب الرزق، وفيما يتصور أن صعود السائحين للجبل ورؤية حيواناته الأليفة ومعايشة بيئته الطبيعية شئ مبهج لهم مثلما له، يشعرون بالتأفف من الرائحة، ويرغبون في المغادرة للسباحة والغطس.

ويبدي المخرج تعاطفا مع قضية المهاجرين، بل نستشعر رغبته في تأكيد ضرورة مساعدتهم لا تجاهلهم أو تجريمهم من الإلحاح على هذا الرسالة عبر توظيف اللقطة الدالة للمركب الغارق التى يكررها من وقت لآخر، لتذكيرنا الدائم بأن مصير هؤلاء المهاجرين الغرق والموت، إن لم نسعى لمساعدتهم، ولم يكتف بهذا، بل يظهر لنا لقطة أخرى ذات دلالة قوية في المشاهد الأخيرة للفيلم يؤكد بها هذا المعنى لبقايا متعلقات غرقى من أحذية وحافظات نقود وغيرها.

 بينما يبرز مآساة المهاجرين في كلمات قليلة في مشهد بالغ الدلالة، تمت صياغته برهافة وذكاء، حيث يقوم طفل المرأة الإفريقية بمحاولة التخلص من شقيقه الرضيع غير الشرعي، فتهرول السيدة الايطالية لإنقاذه، بينما تصيب الإفريقية هسيتريا البكاء، وتبوح بسرها وما تعرضت له من معاناة في رحلة الهجرة من احتجاز على الساحل الليبي ثم اغتصابها، قبل استقلالها مركب مزدحم وهي تعاني الجوع والعطش، إلى أن وصلت للسواحل الايطالية بين الموت والحياة.

ومن اللقطات التى تتوقف عندها كذلك، وتبين مهارة هذا المخرج وحسه الفني المتميز تلك اللقطة الطويلة الواسعة للكم الهائل من الأسماك الميتة التي جسد فيها تضامن الصيادين مع رفيقهم حين تعسفت السلطات ضده، ومنعته من تجديد رخصة البحر، بالاضراب عن العمل، وإلقاء الأسماك أمام مقر البلدية.

وكذلك لقطة الـ"كلوز آب" للكرة الأرضية المضاءة بقوة في الظلام التى يمسك بها الشاب الصغير ليبحث عن البلد التى آتت منها المرأة الأفريقية فيجدها، ولا يجد جزيرته الصغيرة، كما لو كان المخرج يريد إخبارنا أننا لسنا الأفضل كما نظن، وأن ما نراه مجهولا، ربما أكثر منا معرفة، ولن نختبر الآخر إلا إذا تعايشنا معه وبحثنا عنه، ولم ننغلق على أنفسنا.

وقد أحسن المخرج باللجوء للتصوير الداخلي أو الخارجي في الليل في معظم المشاهد، واستغلال أجواء الظلام والإضاءة الخافتة على نحو يجسد الحالة السيكولوجية المتمحورة حول الترقب والتوجس والحيرة، والخوف من المجهول، والذي عززها بالتيمة الموسيقية التى تبرز هذا الشعور المناسب تماما للخيط الدرامي الذي يصل نهايته بلقطة طويلة للمركب يحمل المرأة الأفريقية وأبنيها في الظلام مبتعدا عن الساحل.(ميدل إيست أونلاين)


شارك على جوجل بلس

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق