لندن - يقدم كتاب “ما بعد الربيع: التحول الاقتصادي في العالم العربي” تحليلا غنيا لعمليات الانتقال التي مازالت معطياتها تتكشف يوما بعد يوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
اشترك في
تقديم هذا العمل 15 عالما ومتخصصا ومسؤولا سابقا، بعدما تبلورت الفكرة فيما بينهم أثناء
عقد “معهد بروكينغز″ لورشة عمل في العاصمة الأميركية واشنطن في يونيو من عام 2011،
إلا أن الباحث الرئيسي الذي أعد هذا العمل هو الاقتصادي مجدي أمين.
في فترة إعداد كتاب “ما بعد الربيع″ كان قد مر على
اندلاع الثورات في مصر وتونس قرابة الأربعة أشهر فقط، وكانت التوقعات حينها عالية في
إمكانية حدوث تغييرات ملموسة في البنية السياسية التي قامت على القمع والاستبداد، وكذلك
في تطوير النظم الاقتصادية المتحللة والبالية. لكن بعد مرور ثمانية عشر شهرا على تنحي
الرئيس حسني مبارك تظل الأوضاع في مصر (على غير المتوقع) محل انتقاد وتحليل. والغريب
هو أن السلطة المصرية الحاكمة الآن تتحدث عن إمكانية تحقيق مكاسب وأرباح عاجلة، في
الوقت الذي تتراجع فيه معدلات النمو، وترتفع فيه معدلات البطالة باطراد ملحوظ.
«الرفض للنمو» أسهم في الثورات
وقد أنتجت عدة مناقشات طويلة هذا الكتاب الذي صدر
مع نهاية الشهر الثامن عشر من بداية اندلاع الثورات، في الوقت الذي يعم فيه غياب الرؤية
المستقبلية في الدول التي شهدت تغييرا للنظام، وكذلك الدول التي لم تشهد ذلك بعد. ونتيجة
لذلك، وفي الوقت الذي يرصد فيه الكتاب توقعات أن يقدم الربيع العربي الفرصة في حدوث
إصلاحات ملحوظة في اقتصادات دول الشرق الأوسط، إلا أن المؤلف نفسه أقر في أحد فصول
الكتاب بأن “تغيير النظام ورفض الأنظمة الاستبدادية القديمة وحدهما لا يؤديان إلى ضمان
تطوير أداء الحكومات الجديدة في المستقبل القريب. يتطلب هذا عملا جادا، وتغييرات واسعة
تتزامن مع هذا العمل”.
وفي الفصل الذي يتحدث عن الأسباب الرئيسية التي أدت
إلى هبوب رياح الربيع العربي على المنطقة، أورد المؤلف مفارقة هامة تتحدث عن تصاعد
“الرفض للنمو” الذي وصل إلى ذروته مباشرة قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية. حدث هذا نتيجة
اجتياح شعور بالانحدار بين المواطنين، على الرغم من أن مؤشرات الرفاهية كانت تشير إلى
نمو الاقتصاد الكلي بشكل مستمر.
وعلى الرغم من معدلات النمو الثابتة للناتج المحلي
الإجمالي ما بين عامي 2007 و2010، هبطت النسبة المئوية للطبقة الغنية طبقا لنتائج استطلاعات
الرأي من 24 بالمئة إلى 10 بالمئة في تونس، ومن 25 بالمئة إلى 12 بالمئة في مصر، وانهار
كذلك معدل الرضا بين المواطنين عن الخدمات الحكومية بين عامي 2009 و2010. إن النظرة
التحليلية للاقتصاد القياسي في هذه الدول تمكن من تقديم معلومات جديدة في سياق السرعة
التي استطاعت من خلالها المعارضة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من التقارب في الرؤى
في دول شمال أفريقيا مع بدايات عام 2011.
الفرص الضائعة
يتزايد الإحساس بأن العامين الماضيين هما عاما الفرص
الضائعة من خلال التفاصيل الدقيقة التي يعرضها الكتاب حول تضاريس الإصلاحات السياسية
التي يجب توافرها، حتى تتمكن هذه الدول من مواجهة التحديات الهيكلية والديموغرافية
التي تواجهها المنطقة.
أما المبدأ الأساس الذي يقوم عليه النقاش بين مؤلفي
الكتاب هو أن الإصلاح السياسي والانتقال السلمي للسلطة لا يعد كافيا، وإنما يجب أن
تتضمن عملية التحول الديمقراطي أيضاً إصلاحات اقتصادية ملحوظة، إلى جانب تطبيق مبدأ
العدالة في توزيع الأدوار بين الأجيال الشابة، حتى يتم احتواء تلك الطاقة الهائلة في
بلاد تصل فيها نسبة من هم أقل من 24 عاما إلى 55 بالمئة. وللوصول إلى معدلات نمو مستقرة وارتفاع مطرد في
الإنتاج المحلي، اقترح المؤلفون ضرورة توفر أربعة عوامل اقتصادية انتقالية رئيسية هي:
ضرورة خلق المزيد من الفرص أمام الشباب وضرورة وضع عملية تحديث القطاع العام في دول
العالم العربي على رأس أولويات الحكومات هناك، إضافة إلى ضرورة خلق بيئة اقتصادية منفتحة
على القطاع الخاص، وتشجيعه والمساهمة في تطويره. وأما العامل الأخير فهو واجب التكامل
مع المجتمع الدولي لربط اقتصادات المنطقة بمتطلبات الاقتصاد العالمي. هذه الوصفات ممتدة
النطاق التي تم طرحها في عام 2011، تقف على النقيض تماما من السياسات الاقتصادية التي
شهدتها منطقة الشرق الأوسط مع نهايات عام 2012.
فعلى سبيل المثال، رفعت دول التعاون الخليجي من معدلات
الرفاهية والإنفاق المحلي، كسياسات مالية غير مستدامة أو استثنائية، وهو ما دفع صندوق
النقد الدولي إلى توجيه تحذير للكويت (على سبيل المثال) من إيرادات النفط السنوية المستهلكة
مع حلول عام 2017.
كذلك فإن محاولات الأردن لرفع الدعم عن المحروقات
تسببت في انفجار الاحتجاجات السياسية التي سرعان ما اجتاحت البلاد، للتعبير عن الحساسية
الشديدة والغضب العارم من تلك “السياسات الإصلاحية” التي يخاطر بطرحها هؤلاء الحكام.
في غضون ذلك تبقى مصر وتونس والأردن والبحرين معولة على حزمة المنح والقروض والمساعدات
التي قد تصل إلى مليارات الدولارات والمنتظر أن تقدمها الدول الخليجية (قطر على وجه
الخصوص) لهم لمساعدتهم على مواجهة احتمال الانهيار الاقتصادي لدولهم.
مخاوف ما بعد الربيع العربي
يبقى أكثر ما يثير المخاوف لدى دول الربيع العربي،
هو أنه لا يوجد أي مثال لعمليات التحول الديمقراطي التي شهدها العالم من قبل تدعو للتفاؤل
بداية من عملية التحول التي حدثت في جنوب أوروبا خلال السبعينيات، مرورا بالثورات التي
اجتاحت منطقة أميركا الجنوبية خلال الثمانينيات، وصولا إلى عملية التغيير الواسعة التي
شهدتها دول شرق أوروبا في تسعينيات القرن المنصرم. لكن المؤلف نجح في تضمين الكتاب
لـ 103 وثائق تتحدث عن جميع عمليات التحول الديمقراطي التي شهدها العالم منذ عام
1960 وحتى الآن، وخلصت إلى نتيجة أن السياسيين هم الفئة الوحيدة التي قد تتمكن من خلق
منفذ صغير يمثل الفرصة التي من الممكن أن يحققوا نجاحا من خلالها، أو لا. لكنه أكد
أن الفترة الانتقالية التي تعقب قيام الثورات أو الاحتجاجات الشعبية، والتي تمثل هذه
الفرصة، هي الفترة التي يجب فيها على الحكومات الانتقالية التي استطاعت أن تصل إلى
السلطة أن تسرع بتبني “سياسات غير معهودة” لتمرير حزمة الإصلاحات المطلوبة، وبشكل سريع
من قبل أن تنجح المعارضة في بناء احتجاج شعبي قوي، قد يتمكن من الإطاحة بها هي أيضا.
أما الفشل في تحقيق ذلك فقد يدفع، كما حدث في روسيا
في التسعينيات وكذلك في الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2005، إلى حدوث انتكاسة
سياسية، قد تؤدي إلى استغلال أصحاب المصالح في النظام القديم للموقف بغرض العودة مرة
أخرى إلى المشهد السياسي، وهو ما ينتج عنه فوضى قد تطيح بالعملية الديمقراطية برمتها.
كما استنتجت مجموعة المؤلفين أن 40 بالمئة من قضايا
التغيير الـ 103 التي سبق الحديث عنها تمكنت من الخروج من المأزق الاقتصادي الذي عادة
ما ينتج عن غياب الاستقرار السياسي في فترة وصلت في أحسن الحالات إلى خمس سنوات.
ويبقى التحدي الاقتصادي الذي يواجه دول العالم العربي
هو أن صناع السياسات في هذه الدول لا يملكون رفاهية الخطأ أثناء عملية التحول الاقتصادي،
ولكن الحقيقة الواضحة هي أن الواقع الاقتصادي في دول الربيع العربي مع بداية عام
2013 يبدو أكثر غموضا بكثير مما كان عليه عن كتابة “ما بعد الربيع″ في 2011.(العرب اللندنية)
0 التعليقات :
إرسال تعليق