بقلم: د. عبدالعاطي محمد
ليس هناك من تفسير لهذا الموقف الغريب سوى أن الإدارة
الأمريكية مرتبكة بالفعل في التعامل مع الملف السوري على خلاف موقفها الواضح مما جرى
في الحالة الليبية مثلاً. ومبعث الارتباك لا يتعلق فقط بخبرة الحالة العراقية وما تركته
من تجارب مريرة بالنسبة للولايات المتحدة، وإنما بخصوصية المشهد السوري إذا ما قورن
بغيره من مشاهد التغيير في بقية بلدان الربيع العربي.
الارتباك الذي تعاني منه السياسة الأمريكية حيال
الملفات الساخنة في المنطقة العربية وآخر تجلياته تردد وعدم قدرة الرئيس الأمريكي باراك أوباما على اتخاذ قرار
بتدخل عسكري انتقائي في المشهد السوري، لا ينفصل عن الارتباك الذي تعاني منه السلطات
العربية المعنية وكذلك القوى السياسية في بناء الأنظمة الجديدة لمرحلة ما بعد ثورات
الربيع العربي.
فكلاهما
ناجم عن غياب المعلومات والوقائع وعن الافتقار للقدرة على تنفيذ ما يمكن اتخاذه من
قرارات سياسية من جهة أخرى، ويضع المنطقة كلها على أبواب سيناريوهات مختلفة للفوضى
وعدم الاستقرار من جهة ثالثة.
نستطيع أن نفهم تردد أوباما بعد أن جاءته تقارير
الأجهزة المعنية بما يفيد بأن الجيش السوري قد استخدم أسلحة كيماوية بقدر ما (محدود)
في صراعه مع قوى المعارضة المسلحة، استناداً الى تخوفه من أن يعيد خطأ جورج بوش الابن
الذي خاض الحرب على نظام صدام حسين في العراق بدعوى امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل،
واتضح أن المعلومات بهذا الشأن لم تكن دقيقة وأنها على الأرجح استخدمت ذريعة لشن الحرب.
وقد ترتب على الحر
ب ما ترتب من دمار وانقسام وفوضى
في بلاد الرافدين لم تتوقف بعد مرور عشر سنوات على هذه الحرب.
ولا يريد أوباما أن يستخدم تقارير من هذا النوع لكي
يدفع ببلاده الى حرب أخرى في المنطقة مركزها الشام هذه المرة لا تستند الى مبررات قوية
يتقبلها الجميع في الولايات المتحدة بدءاً من الإدارة الأمريكية ذاتها الى الشعب الأمريكي
ومروراً بالكونجرس، خصوصاً أن حرب العراق تركت أثراً عميقاً سيئاً في السياسة الأمريكية.
ولذلك حرص أوباما على أن يتجاوب مع خطورة هذه التقارير
ولكن بتحفظ بأن أعاد التأكيد على أن كل الخيارات مفتوحة بالنسبة للموقف الأمريكي من
تداعيات الأوضاع السورية بما يعني احتمال اللجوء الى العمل العسكري، ولكنه لم يتماد
في ترجيح هذا الخيار، بل طلب فحصاً للمعلومات مشدداً على أنه يريد وقائع أي أدلة قاطعة
مادية لا يرقى اليها الشك.
ولكننا لا نستطيع فهم الموقف الأمريكي في مجمله وكأن
كل ما جرى من جانب النظام السوري ضد المدنيين على مدى عامين وأكثر من دمار وتشريد لا
يكفي بالنسبة للإدارة الأمريكية لاتهام هذا النظام بأنه يرتكب جرائم ضد الإنسانية،
وأن تلك الجرائم تفترض حدوث موقف أمريكي صارم من هذا النظام بما فيه العمل مجدداً على
تشكيل ائتلاف دولي يستند الى قرار وشرعية من الأمم المتحدة لحسم الصراع الدائر بتغيير
النظام وإقامة نظام آخر يتوافق مع تطلعات الثورة السورية. بعد كل ما جرى ما كان للإدارة
الأمريكية أن تعلق موقفها الجاد والصارم على إقدام النظام السوري على استخدام أسلحة
كيماوية من عدمه.
وليس هناك من تفسير لهذا الموقف الغريب سوى أن الإدارة
الأمريكية مرتبكة بالفعل في التعامل مع الملف السوري على خلاف موقفها الواضح مما جرى
في الحالة الليبية مثلاً.
ومبعث الارتباك لا يتعلق فقط بخبرة الحالة العراقية
وما تركته من تجارب مريرة بالنسبة للولايات المتحدة، وإنما بخصوصية المشهد السوري إذا
ما قورن بغيره من مشاهد التغيير في بقية بلدان الربيع العربي.
فالنظام السوري لديه جيش قوي بينما لم يكن هذا موجوداً
في الحالة الليبية، واستطاع هذا الجيش أن يصمد لمدة عامين كما هو قائم الآن، والمعارضة
السورية لها وجهان أحدهما سياسي يعاني من الانقسام الداخلي، والآخر عسكري معظمه من
جهة النصرة الإسلامية المختلفة جذرياً في توجهاتها مع الوجه السياسي للمعارضة، وبعد
أكثر من عامين لم تتمكن المعارضة بشقيها السياسي والعسكري من السيطرة على منطقة كبرى
من سوريا تمكنها من إقامة حكم عليها يقود الثورة على النظام في دمشق، فضلاً عن وجود
نسبة مقدرة من الشعب السوري لا تزال في صف النظام بالصمت أو المجاهرة بما يعني أننا
لسنا أمام ثورة تمثل كل الشعب السوري.
ومن جهة أخرى فإن تهديدات النظام السوري بإشعال حرب
إقليمية في المنطقة لا بد أن تؤخذ في الحسبان جيداً وليس على سبيل المناورة السياسية،
ومن هنا قلق الأردن من أن تمتد اليه نيران العنف المسلح حيث هدد النظام السوري بالهجوم
على الأردن إذا ما حدث تدخل عسكري أجنبي بناء على تصديق التقارير الخاصة باستخدامه
أسلحة كيماوية.
ومن هنا
أيضاً قلق لبنان من أن تلقى نفس المصير حيث لا يخفى أن هناك علاقة استراتيجية بين النظام
السوري وحزب الله المدعوم من إيران صديقة الطرفين، وهناك تقارير أفادت بمشاركة عناصر
من الحزب في العمليات العسكرية ضد المعارضة المسلحة دعماً للنظام السوري.
ويتخوف لبنان من أن تنعكس هذه العلاقة على أوضاعه
الداخلية خصوصاً مع مطالب لبعض شيوخ السنة (المتعاطفين بالطبع مع الثورة السورية) بمنع
عناصر الحزب من التورط في الصراع السوري.
مثل هذه الخصائص للمشهد السوري تفيد في تقدير درجة
المخاطر أي توفير الانطباع العام لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية المعنية بأن
الوضع السوري بالغ الخطورة ويحتم التدخل كما تفيد في بناء الاحتمالات والتوقعات لتداعياته
بوجه عام، ولكنها لا تفيد في تقديم المعلومات والوقائع التي تستند اليها جهة اتخاذ
القرار السياسي بالتدخل وبأي شكل وفي إطار أي جدول زمني بسبب تعقيدات خصائص المشهد
السوري على الصعيدين الداخلي والإقليمي، حيث لا يصح مطلقاً افتعال وقائع أو تضخيمها
والترويج لها للضغط في اتجاه قرار سياسي معين من الممكن أن يقود الى كوارث في المستقبل.
وكان لافتاً في هذا الإطار أن قيادات عسكرية بارزة
في الجيش الحر سارعت عبر الفضائيات الى حفز الولايات المتحدة على التدخل عسكرياً ضد
النظام فور انتشار تقارير استخدام أسلحة كيماوية على نطاق محدود، بينما ظل الطرف المدعو
متحفظاً كما فعل أوباما عندما قال إنه يريد وقائع.
وليس الارتباك الأمريكي في الملفات الأخرى بعيداً
عن نفس ملابسات المشهد الداخلي في سوريا أي أنه انعكاس لارتباك أكثر دراماتيكية في
بلدان مثل الأردن أو مصر أو ليبيا وتونس مروراً بالأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
فبينما ساد انطباع عام في المنطقة العربية قبل اندلاع ثورات الربيع العربي يستنكر أي
احتكاك أمريكي بتطورات الأوضاع الداخلية هنا أو هناك، وكانت الولايات المتحدة متهمة
بأنها تريد التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وأن لها من يطلبها لهذا التدخل
من أبناء المنطقة ذاتها، أصبح استدعاء الولايات المتحدة للتدخل أمراً عادياً وطبيعياً
من جانب من كانوا يعارضون ذلك في الماضي.
فما كادت القوى السياسية – على اختلاف توجهاتها في
الحقيقة- التي تصدرت المشهد السياسي تفشل في إحراز أهدافها وفي إنجاح الثورات حتى تناست
كراهيتها السابقة للدور الأمريكي بين ليلة وضحاها وسارعت الى دق أبواب واشنطن للاستقواء
بها في تحقيق ما فشلوا فيه!
وإذا ما نظر صانع القرار الأمريكي للتناقضات في الرؤى
والمواقف والتبدلات من وقت الى آخر فإنه يقف مرتبكاً عاجزاً عن تحديد موقفه بدقة لأنه
لا يمتلك معلومات ووقائع يمكن البناء عليها لتأييد أو رفض مطالب معينة.
فواقع الحال يشير الى أن السلطات والقوى السياسية
العربية بعد عامين من الفشل تتحدث بأكثر من خطاب وتتصرف بأكثر من سلوك كلهم يتنافرون
مع بعضهم البعض، فبينما هناك ما يشير الى أن أبواب التواصل والحوار وطلب الدعم مفتوحة
مع البيت الأبيض والكونجرس والإعلام الأمريكي بما يعني أن هناك حرصا على أن يكون للولايات
المتحدة دور في المراحل الانتقالية عقب الثورات على عكس ما كان يشاع من مقاومة لهذا
الدور في الماضي القريب، هناك أيضاً خطاب عدائي، بل وتصرفات معادية ضد الولايات المتحدة
تظهر من وقت الى آخر إما لمغازلة الشارع السياسي أو لتصفية الحسابات بين القوى المتنافسة
ولا يعدم الحال أيضاً من أن تظهر خطابات مؤيدة ومرحبة بالدور الأمريكي.
ويؤدي ذلك الى أن يظل الموقف الأمريكي حبيس العمل
في دائرة الارتباك أي العجز عن بلورة موقف محدود من الأحداث، والمضي قدماً في تنفيذ
ما يفرضه هذا الموقف من سياسات.
والسؤال الذي يفرض نفسه هو ما الذي يمكن أن تفعله
الولايات المتحدة إذا ما استمرت حالة الارتباك التي تتسم بها الأوضاع في قطاع ليس بالهين
في المنطقة العربية، وإذا ما بقيت الإدارة الأمريكية على ارتباكها هي أيضاً وتدهورت
الأوضاع الى حد اندلاع حرب إقليمية في المنطقة، وما هو تأثير سياستها المرتبكة على
مستقبل إسرائيل في منطقة تنجرف سريعاً نحو الهاوية.
ولكن تجديد السيناريوهات السيئة المتوقعة قد يساعد
على استشراف احتمالات التغير في المواقف الأمريكية، ومن ذلك أولاً أن تؤدي حالة عدم
الاستقرار القائمة في بلدان الربيع العربي الى انتكاسة شديدة في التحول الديمقراطي
فتتحول هذه البلدان الى ما يسمى بالدول الفاشلة أي غير القادرة على القيام بمتطلبات
الدولة المدنية وهي الأمن والكرامة الإنسانية والتقدم الاقتصادي.
وهنا يمكن أن تخرج السياسة الأمريكية عن ارتباكها
وتتبنى سياسة عدائية تجاه هذه الدول تنعكس في فرض حالة من الحصار الاقتصادي والسياسي
عليها، أو التدخل العسكري السافر وإعادة أنظمة سياسية موالية مدعومة بوجود عسكري صريح
على أراضيها.
ومن ذلك ثانياً أن تنجرف هذه البلدان الى انقلابات
عسكرية متتالية وسط اتجاهات متصاعدة نحو الفاشية بدعوى الحفاظ على الوطن، وهنا من المتوقع
أن تتدخل الولايات المتحدة مباشرة لمنع مثل هذه الانقلابات لاعتبارات عسكرية بالدرجة
الأولى لأن أنظمة تسليح هذه الدول تكاد تكون أمريكية وغربية بالكامل ولا ترغب الولايات
المتحدة أن يصبح استثمارها العسكري في هذه الدول استثماراً خاسراً خصوصاً إذا ما تغير
نمط التسليح بفعل هذه الانقلابات.
ومن جهة ثالثة فليس من المستبعد أن يتحقق ما تم التحذير
منه مراراً ألا وهو اندلاع حروب طائفية تقضي على وجود الأقليات في هذه البلدان، وهنا
فإن التدخل الأمريكي من المتوقع أن يكون صريحاً ومباشراً. ومن جهة رابعة تتعزز مبررات
إسرائيل الأمنية فتتجه الى التوسع باحتلال المزيد من الأراضي العربية المجاورة وتتخلى
عن أي التزامات بخصوص إقامة دولة فلسطينية، وفي هذه الحالة تصبح الولايات المتحدة شريكاً
لإسرائيل في إعادة تقسيم المنطقة.
اللافت أن كل السيناريوهات السابقة لها تكلفة سياسية
ومادية عالية بالنسبة للسياسة الأمريكية بما يفترض أن صانع القرار الأمريكي لا يود
مطلقاً أن تتطور الأحداث في المنطقة وصولاً الى هذه التوقعات السيئة، وهذا يعني أنه
يعمل من الآن على ألا تتحقق، ولكن الشاهد هو أن التردد والارتباك هما سيدا الموقف في
القراءة الأمريكية للمشهد العام، وما لا يدركه صانع القرار أو يتعامل معه بخفة هو أن
الارتباك في قمة السياسة الأمريكية يشجع بقوة على ارتباك المشهد المحلي في المنطقة
بما يزيد من فرص تحقق السيناريوهات السيئة السابقة.(عُمان)
0 التعليقات :
إرسال تعليق