بقلم:
خالد الدخيل
كتبت قبل
أسبوعين هنا عن أن الربيع العربي ينبئ بإزاحة الأساس الاجتماعي الذي قامت عليه
نظرية عالم الاجتماع الأول عبدالرحمن بن محمد بن خلدون عن الدولة، ومن ثم فإن هذه
النظرية استنفدت أغراضها، وفقدت صلاحيتها للتفسير. كانت نظرية العصبية محاولة
لتقديم تفسير اجتماعي لما عُرف بولاية المتغلب، التي تقوم على القوة والغلب، أو
توازن القوة في المجتمع.
ما فعله
ابن خلدون أنه أماط اللثام عن الأساس الاجتماعي لهذه القوة الذي يسمح بالتغلب
والاستيلاء على الدولة، وهذا الأساس هو العصبية، وهو ما يعني أن المجتمع الذي
يهيمن عليه النمط السياسي لولاية المتغلب ذو بنية اجتماعية معينة تؤسس اجتماعياً،
وفقاً لمجرى العادة، كما يقول ابن خلدون، لهذا النمط السياسي من الحكم، تتصف هذه
البنية بالقبلية.
كانت
العصبية، كعامل اجتماعي، هي العامل الحاسم، وكانت القوة المادية وبخاصة العسكرية،
هي أداة تأسيس الدولة أو الاستيلاء عليها. القبيلة بعصبيتها وقيمها هي الفاعل
النشط في بنية المجتمع، وفي العملية السياسية الموصلة للحكم.
لا يسمح
المقام هنا بالتفصيل، لكن إليك ما قاله صاحب المقدمة عن هذه النقطة تحديداً. يقول:
«إن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة»، والناس بحكم طبيعتهم
الإنسانية «يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض». لكن هذا
الحاكم لا بد «أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية، وإلا لم تتم قدرته على ذلك،
وهذا التغلب هو الملك».
بعد ثورات
الربيع يبدو المشهد السياسي في خمس دول عربية مختلفاً، فالفاعل السياسي النشط في
هذا المشهد هو فكرة التنظيم على أساس سياسي دستوري ديني نقابي... إلخ. يختلف
التنظيم عن القبيلة في أمر واضح ومهم، وهو الطبيعة وأساس الانتماء. القبيلة مؤسسة
اجتماعية طبيعية، وأساس الانتماء لها علاقات النسب، أساس العصبية، وبالتالي فهي
مؤسسة مغلقة أمام من لا ينتمي إليها من خلال أبيه، أما التنظيم الحديث فهو مؤسسة
ليست طبيعية (أي مصطنعة) وأساس الانتماء لها هو الرؤية والمصالح والأهداف
المشتركة، وبذلك فهو مؤسسة مفتوحة أمام الجميع، ليست مغلقة. العنصر الثاني النشط
والمختلف في المشهد الجديد هو أن الشعب أصبح بحكم الأمر الواقع طرفاً في العملية
السياسية، وهذا لم يحصل من قبل. عندما تأخذ فكرة التنظيم ومشاركة الشعب، تكون أمام
عملية إزاحة فكرة العصبية كإطار للعملية السياسية، وكأساس للحكم وقيام الدولة.
سيقال،
وهذا صحيح، إن العملية لا تزال في بدايتها، وأنها بذلك معرضة للانتكاس، بل وربما
النكوص إلى ما كانت عليه الأمور قبل ذلك. الانتكاس وارد جداً، بل وطبيعي، أما
النكوص فاحتمال حدوثه مستبعد. الانتكاس وارد ومحتمل، بل أحياناً ما يكون حتمياً،
لأن الثورة الشعبية تولد في البداية حالاً ثورية تتسم غالباً بالاضطراب والارتباك
والهرج والمرج والعنف، وكل ذلك مترافق مع انفجار صراعات قديمة ومستجدة. الحال
الثورية هي بمثابة مرحلة انتقالية بين ما قبلها وما بعدها، وخلال هذه المرحلة
ستحدث أشياء كثيرة لصالح الثورة وضدها، ولا ننسى أن هناك دائماً ما يسمى بـ
«الثورة المضادة» على قاعدة الفعل ورد الفعل الذي يولده، وخلال هذه المرحلة التي
قد تطول أو تقصر، يُنتظر أن تمر الثورة بعملية نضج تكتمل أو تبدأ بعدها عملية
اكتمال التحول الذي فجرته الثورة.
حتى في
الثورة السورية التي تبدو الآن في مخاض عسير لم تعرفه الثورات الأربع الأخرى، لا
يمكن أن تكون هناك انتكاسة. حسمت الثورة بالدماء الغزيرة التي قدمتها أمر النظام
وقيادته، وأنهما لم يعودا جزءاً من مستقبل سوريا، ومؤشرات ذلك كثيرة ومنها أن
قيادة النظام نفسه تطالب بالحوار مع المعارضة، وتعد بالإصلاحات، والالتزام بتحقيق
تطلعات الشعب، وهي لغة لم يكن النظام يعترف بها، ولا كان أحد خارج النظام يتجرأ
على القول بها علناً، والأهم من ذلك، أن الدمار المنظم الذي تتعرض له المدن والقرى
والأحياء، وجرأة النظام على الولوغ في دم الشعب بمثل هذا الاستهتار، كشف حقيقته
أمام الناس، وأفقده أساس شرعيته، وحتى القوى التي كانت تتفهم النظام، وتتعاطف مع
طروحاته أو التي كانت تستفيد منه، مثل ما يسمى بتجار دمشق وحلب، فقدوا أصواتهم،
وأصيبوا بالذهول أمام المدى الذي ذهب إليه في استعداده للتدمير والقتل، واللافت أن
كل مثقفي سوريا المعروفين من مختلف التيارات، إما انضموا للمعارضة، أو لاذوا
بالصمت والعزلة.
يدرك
الجميع الآن أن الثورة السورية هي الأطول زمناً والأكثر دموية، بسبب النظام،
والأكثر إيلاماً وكلفة، وهذا بحد ذاته ينفي إمكان الانتكاسة.
بقي سؤال:
هل يفهم من حدوث ثورات الربيع وما ترتب وسيترتب عليها أن هذا الأساس الاجتماعي
لنظرية ابن خلدون كان موجوداً ومتماسكاً قبلها؟ حدوث الثورات بحد ذاته يوحي بأن
مقومات هذا الأساس كانت تتعرض لعمليات تصدع، وإن بدرجات مختلفة في كل أنحاء العالم
العربي، ونظراً لأنه تفصلنا عن نظرية صاحب المقدمة أكثر من ثمانية قرون، يقفز
أمامنا سؤال آخر: هل احتاج أمر التصدع إلى كل هذه القرون المديدة؟ هل كان التاريخ
العربي يمر بحال من الجمود منذ انهيار الدولة العباسية في عصر ابن خلدون؟
في مقابل
هذا السؤال المشروع هناك سؤال في الاتجاه الآخر: ماذا عن الفرق الهائل بين
«الدولة» في ذلك الزمن، و«الدولة» في زماننا، من حيث قوة ومدى اتساع قبضتها على
المجتمع، وقدرتها التدميرية؟ هل لهذا علاقة بما يبدو أنه جمود تاريخي؟ بفضل
الثورات التكنولوجية المتتالية أصبحت يد الدولة تطاول كل شبر من أراضيها، فضلاً عن
القوة التدميرية التي تتوافر لها مقارنة بالدولة في الماضي. مرة أخرى انظرْ إلى الحال
السوريا حالياً لترى نتائج ذلك، ثم ماذا عن الصدام مع الغرب ودوره في الجمود
السياسي؟ وأخيراً، ماذا عن هيمنة الخطاب الديني ودوره في جمود الثقافة السياسية؟
الدين لا يقر بذلك، لكن الدين في الأخير هو نص مقدس.
قراءة هذا
النص وتطبيقه وتأثير ذلك لا تعود للنص ذاته، بل لمن قرأ وفسر وتأول، وطبق التفسير
بهذه الوجهة أو تلك، وللظروف المحيطة بكل ذلك. هناك من ينتمي لخطاب الدين، وله
قراءة ومنظومة أخلاقية وقناعات أو مصالح سياسية تسمح له أن يوظف النص الديني لخدمة
الجمود السياسي، بغض النظر إن كان هذا عن قصد، أم عن وقوع تحت ضغط واقع سياسي.
الشيخ محمد سعيد البوطي يقدم في سوريا هذه الأيام مثالاً نموذجياً على تبرير
الاستبداد والجمود السياسي.
يغيب عن
بالنا أحياناً بأن العصر الحديث تعود جذوره إلى قراءة مختلفة قام بها مارتن لوثر
للإنجيل، ودشّن بها مع كالفن ما صار يعرف في التاريخ الأوروبي بحركة الإصلاح. كان
ذلك مع بداية القرن 16م/10هـ. أي أن جذور الحداثة تعود في أصلها إلى الكنيسة، وهي
الحداثة التي انتهت في الأخير بفصل الكنيسة كمؤسسة دينية بيروقراطية عن مؤسسة
الدولة، وبالتالي نزعت منها سلطة التأثير، أو سلطة الانفراد في صياغة وعي المجتمع،
وصياغة الوعي لا تتم بالقوة العسكرية أو قوة القانون وحسب، وإنما أيضاً بقوة الفكر
والأخلاق والقيم الإنسانية. ما فعلته الحداثة أنها جعلت النص الديني يخضع للإنسان
وللتاريخ، وليس العكس، كما كانت عليه الحال في زمن سيطرة الكنيسة.
مهما كان
الزمن الذي يفصلنا عن المقدمة، لا يمكن تفادي فرضية أن حدوث ثورات عربية بالحجم
الذي حصل يؤشر إلى أن العصبية التي اعتبرها ابن خلدون العامل الأهم في نشأة الدولة
على الأقل تمر بحال تصدع لم تعرفها من قبل، وفي بعض الحالات ربما أنها تصدعت
بالفعل، وهذا يضعنا أمام سؤال ثالث: ما هي العصبية تحديداً؟ هل تقتصر على النسب؟
أم أنها تتسع لما هو أكثر من ذلك؟ تركيبة المجتمع اليمني أكثر قبلية من المجتمع
السوري، ومع ذلك لم تنزلق ثورته إلى حرب عصبية مدمرة مثل الذي يحصل في سوريا، فإلى
ماذا يعود ذلك؟ ينبغي أن ننتبه إلى أن هذه الأسئلة تعني أن الزمن تجاوز نظرية ابن
خلدون.(الحياة اللندنية)
0 التعليقات :
إرسال تعليق