بقلم: سعد محيو
هل بدأ
الرئيس بشار الأسد زجّ أوراقه الإقليمية في معركته الداخلية مع معارضيه؟
سنأتي إلى
هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، تذكير بأن سوريا قادرة، بفعل موقعها الجيو- استراتيجي
الدقيق في الشرق الأوسط، أن تكون في آن بُـؤرة الاستقرار أو اللااستقرار في
المنطقة، بغضِّ النظر عن طبيعة السلطة الحاكمة في دمشق.
هكذا كان
الأمر منذ أيام الأشوريين والفينيقيين والفُـرس في تاريخ ما قبل المسيح، وهكذا كان
أيضاً، في العصور الحديثة، حين تحوّلت سوريا إلى واسطة عقد أيّ نظام (أو لانظام) إقليمي
جديد في الشرق. مَـن يُسيطر أو يُهمين على هذا البلد، يكون في مُـستطاعه ممارسة
نفوذ أو سياسية خارجية تَـطال أجزاءً شاسعةً من حوْض البحر المتوسط، ويكون في
موقِـع يُـمكِّـنه من طرْق أبواب الخليج العربي بقوة.
هذا ما
خبرته مصر منذ أيام الفراعنة وحتى عصر جمال عبد الناصر، وهذا ما عاينته جمهورية
إيران الإسلامية الحديثة، حين وجدت نفسها تستعيد أمجاد قورش الكبير، الذي هيْـمن
على الشرق الأوسط بدءاً من عام 546 قبل الميلاد عبْـر إحْـكام قبضته على الهلال
الخصيب السوري.
بشار
الأسد، في مقابلته مع محطة التلفزيون الروسي قبل أيام، أشار إلى هذه الحقيقة، حين
ربط بين موقع سوريا الاستراتيجي وبين حروب الموارد الطبيعية التي تجري الآن على
أرض المنطقة حيث قال "عندما تكون بلادك في موضع استراتيجي مُـهِـم وتطُـل على
البحر الأبيض المتوسط وتمُـر بها جميع الطُّـرق، من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب
إلى الشرق، فستَـطالُـك مثل هذه الحرب (الموارد) حتْـما. لكن الأمر ليس فقط في
وجود الغاز، بل أيضا في دور بلادنا في المنطقة. إنه دور استراتيجي. وهُـم (الغرب) يحاولون
باستمرار تهميش نفوذ سوريا وتقليصه داخل حدودها، لكنه أمر مستحيل، وسيبقى نفوذنا
أوسع دائما".
ثم أضاف
"إذا ما كانوا يريدون زرْع الفوضى في سوريا، فسترتَـدّ عليهم".
الورقة
اللبنانية
نعود الآن
إلى سؤالنا الأوليّ، لنقول إن دمشق دشّـنت بالفعل زجّ أوراقها الإقليمية في
المعركة. وبالطبع، حين نتحدّث عن مثل هذه الأوراق، فهذا يعني في الدرجة الأولى (وحتى
قبل القضية الفلسطينية)، لبنان، الذي وبفعل تركيبته الطائفية التعدّدية التي
تجتذِب التدخّلات الإقليمية والدولية، كالمغناطيس، والذي وصفه مترنيخ بأنه "هذا
البلد الصغير، كبير الأهمية الاستراتيجية كان حجر الأساس الذي بنى عليه الرئيس
الراحل حافظ الأسد "إمبراطوريته" الإقليمية منذ عام 1976.
المؤشرات
على بدء تحريك الورقة اللبنانية، كانت تتراكم خلال الأيام الأخيرة، من رسالة بشار
الجعفري، مندوب سوريا في الأمم المتحدة، إلى مجلس الأمن، والتي تحدّث فيها عن
تهريب الأسلحة من لبنان إلى سوريا، وعن تحوّل شمال لبنان إلى مقَـرّ لتنظيم
القاعدة و"الجهاديين الإرهابيين"، إلى جولة أحمد جبريل (قائد الجبهة
الشعبية - القيادة العامة) المفاجِـئة في لبنان، وما قيل عن جولة مماثلة، وإن
سريّة، للمسؤول الأمني السوري البارز محمد ناصيف، وصولاً إلى الاضطرابات الأمنية،
التي ضربت لبنان من شماله إلى بيروت وضواحيها الشمالية والجنوبية.
لكن، لماذا
تريد دمشق زعزعة استقرار حُـكم لبناني يُـعتَـبر موالياً لها وناصرها في مجلس
الأمن والجامعة العربية وبقية المحافل الدولية والإقليمية؟
الأسباب تبدو وفيرة:
- سياسة
النأي بالنفس، التي اخترعتها دمشق لحكومة الرئيس ميقاتي والتي خدمتها تماماً،
لأنها وفّرت لها المُـتنفّـس المالي في خِـضمِّ العقوبات الدولية المريرة عليها، فعلت
ما عليها وانتهت صلاحيتها. ولذا، بات على الحكومة اللبنانية أن تكون أكثر وضوحاً
في دعمها المباشِـر للسلطة السورية في معركتها الداخلية، كما الخارجية.
- الأجهزة
الأمنية اللبنانية (خاصة مديريتا الأمن العام ومخابرات الجيش)، تساعد دمشق بكثافة
من خلال ملاحقة المعارضين السوريين اللاجئين إلى لبنان وإعداد التقارير عن
النشاطات "الإرهابية" وتهريب الأسلحة (وهي التقارير نفسها التي استند
إليها بشار الجعفري في رسالته إلى مجلس الأمن).
لكن هذا
أيضاً لم يعد كافياً. فدمشق تريد دوراً مباشراً وقوياً للجيش اللبناني، ليس فقط على
الحدود اللبنانية - السورية، بل أيضاً في داخل الشمال اللبناني، الذي يشهَـد هذه
الأيام صعوداً واضحاً للقِـوى الإسلامية الأصولية، على حساب تيار المستقبل المعتدل.
- وهذه
النقطة الأخيرة، أي "أسْـلَـمة" الشمال اللبناني، تُـعتبر مصدر قلقٍ
استراتيجي حقيقي للسُّـلطة السورية، لأن هذه المنطقة تُـعتبَـر "البطْـن
الرَّخو" لمثلِّـثٍ جغرافي، يضمّ إضافة إليها، كلاًّ من اللاذقية وجبالها مع
امتداداتها إلى حـمص وحَـماه، والتي تشكِّـل معقل الطائفة العلَـوية.
ولذا، لا
تستطيع السلطة في دمشق سوى الاهتمام بما يجري في الشمال السُـنّي اللبناني على
قَـدَم المساواة من الأهمِـية (إن لم يكن أكثر)، بما يجري في درعا وجسر الشغور
وباقي الثغور الحدودية.
- وأخيراً،
تُعتبر الساحة اللبنانية صندوق بريد ممتاز لتوجيه الرسالة الأساسية، التي يهدِّد
بها النظام السوري المُـجتمع الدولي منذ اللحظة الأولى لبدءِ الإنتفاضة ضدّه:
"لا استقرار سورية، سيعني لا استقرار كل المنطقة. وعليكم أن تختاروا. الفوضى
هنا ستعني الفوضى هناك".
نار تحت
الرماد
هذه قد
تكون العوامِـل التي تدفَـع دمشق هذه الأيام إلى تصعيد ضغوطها على الأمن والسياسة
في لبنان، وهي ضغوطٌ قد تتصاعَـد في آتي الأيام، ما لم تحصل على ما تريد. لكن، هل
الداخل اللبناني قابِـل للتحوّل إلى الساحة التي تريدها سوريا؟
كل
المؤشرات تدلّ على أن القِـوى السياسية الرئيسية
في لبنان (من حزب الله إلى تيار المستقبل والأطراف المسيحية والدرزية)، لا
تريد بأي حال تجدّد الحرب الأهلية أو على الأقل لا تريد انفجارها على نطاق واسع.
فحزب الله (وإيران)
سيخسِـران في هذه الحرب، التي ستكون حتماً سنّية - شيعية، كل صرح النفوذ
الاستراتيجي الذي بنيَـاه بشقّ النفس طيلة ثلاثة عقود تحت شعار المقاومة والممانعة
ضد إسرائيل.
وتيار
المستقبل لن يبقى لا تياراً ولا مستقبلياً في حال سيْـطر العنف، لأن التيارات
الأصولية ستحلّ مكانه (وهي بدأت تفعل ذلك على أي حال).
والقِـوى
المسيحية لم تستفِـق بعدُ من هزائمها الإستراتيجية عام 1990. أما الدروز، فهم
يبحثون في هذه المرحلة عمّا يقِـي مناطقهم الجغرافية من شظايا الإنفجار المذهبي
المحتمل.
بيد أن
استبعاد الحرب الأهلية "الكاملة"، لا يعني إبعاد كأس العنف المُـرّ عن
ثغْـر لبنان. صحيح أن الاضطرابات الأمنية هدأت قليلاً في الآونة الأخيرة، بعد "الجولة
الأولى" من محاولات توريط الجيش اللبناني في الصراعات، لكن النار لا تزال تحت
الرّماد، خاصة في الشمال.
ثم إن
الخطف المفاجئ للمواطنين اللبنانيين الـ 12 في سوريا، كان مؤشِّـراً فاقعاً على
الجهود المُـضنِـية، التي يتعيَّن على الأطراف السياسية اللبنانية الأساسية بذلها،
لمنع امتداد الأزمة السورية بالكامل إلى لبنان.
لقد دعا
الرئيس اللبناني ميشال سليمان إلى "مؤتمر حوار وطني" في النصف الثاني من
شهر يونيو المقبل، لتحصين لبنان من تداعِـيات الأزمة السورية، وهذه خُـطوة إيجابية
بالتأكيد. لكن "قرار الحرب والسِّـلم" النهائي في لبنان، ليس في يد
بيروت، بل بين أنامل دمشق.
وإلى أن
يبين الخيط الأبيض من الأسود في توجُّـه سوريا نحو استِخدام أوراقها الإقليمية
لخدمة معركتها الداخلية أو إلى حين تتَّـضح صورة المصير السوري، سيبقى لبنان
سائراً على حبْـل رفيع بين الهاوية الكاملة والسلامة النِّـسبية.(سويس إنفو)
0 التعليقات :
إرسال تعليق