القاهرة - تماما كما يحدُث في سباقات السرعة، كلّـما اقترب المتسابقون من خطّ
النهاية، يرفع كل منهم وتيرة السرعة، لعلّـه يحقق الهدف المنشود.
في مصر، وقبل أقل من أسبوع على الانتخابات
الرئاسية الأولى بعد ثورة 25 يناير 2011، تبدو سرعة الأحداث وكثافتها أكبَـر من
وتيرتها المُعتادة، مما يجعل فهْـم واستيعاب ما يجري على المتابعين والمتخصصين،
مهمّـة أكثر من شاقة.
حيرة المواطن العادي
فما بال المواطن العادي المهموم
بلُـقمة العيش والطامح لوضع حدٍّ للمرحلة الإنتقالية بكل تعقيداتها، والمُحاط بكم
هائِـل من الدعاية والتحليلات الإعلامية والأخبار السريعة المتناقضة والمتضاربة،
ووعود مرشّحي الرئاسة البرّاقة والدِّعايات المضادة لهم، الأكثر بريقا وضجيجا،
فضلا عن القوانين سيِّـئة السمعة وسريعة التجهيز، التي يصدرها البرلمان، كما كان
يفعل الحزب الوطني المنحل، غيْـر المأسوف عليه، وذلك لخدمة مرشّح حزب الإخوان
المسلمين فقط وارتفاع وانخفاض أسهُـم وحظوظ كل مرشّح بين عشية وضحاها.. بالتأكيد،
إنها الحيرة والإرتباك واستعجال اليوم المنشود، لعلّه يوقف نزيف التوتّـر والغموض.
آلة التشكيك والإساءة
الأمر كله يبدو كاختبار غيْـر مألوف
للمصريين جميعا. الكل يتساءل مَـن عساه سيكون الرئيس الأول بعد الثورة، وهل ستكون
الإنتخابات نزيهة وشفافة وغيْـر قابلة للتشكيك والطّعن، والأهَـم، هل ستنتهي
فِـعلا مرحلة الغموض وسيعود الجيش إلى ثكناته مرفوع الرأس، وتُـفتح باب الوضوح والاستقامة،
أم ربّـما تكون مجرّد ضربة بداية لفترة قلَـق أخرى، أكثر تركيبا وتعقيدا وأفدَح
ثمنا.
وهنا، تتعدّد التكهنات، ولكنها لا
تخفي أن هناك آلة سياسية إعلامية إخوانية، تُـساندها مجموعة من الشيوخ القائمين
بإصدار الفتاوى الصادِمة والتي تكفِّـر المعارضين لفِـكر الإخوان، وتقوم بحرفية
عالية بشنّ حملة من التشكيك المنهجي في العملية الإنتخابية وفي قضاة اللجنة العليا
لانتخابات الرئاسة، وتتوعّـد الناخبين بالإثم في الآخرة والخيبة في الدُّنيا،
وتُـمهِّـد لمظاهرات وثورة ثانية، إن لم يفز د. محمد مرسي، مرشح حزب الحرية
والعدالة الإخواني، والذي يوصف بأنه "حامل النّـهضة وباني الخِـلافة
الإسلامية الجديدة ومُطبِّـق الشريعة وحامِـل الخير للمصريين جميعا، ومُـنقذ
فلسطين ومحرِّر القدس، وصاحب أهَـم عشرة قوانين أصدرها البرلمان في الأشهر الثلاثة
الماضية".
والدِّعاية الأخيرة تحديدا، رفضها
أعضاء البرلمان من غير الإخوان، باعتبارها إفتئاتا شديدا على دور البرلمان
بأكثريته وأقليته، وأنها تُـصوِّر البرلمان في خدمة مرشَّـح بعينه، وليس في خدمة
الوطن بأسْـرِه، بل وصل الأمر أن شيْـخا جليلا، كالشيخ يوسف القرضاوي، يُـعلن
تأييده للمرشّح الإخواني، ومُـفتيا بأن "مَـن يُـخالف الإخوان وعقيدتهم، فهُـم
كأهل لُـوط، الذين فضَّـلوا الملذّات والشّهوات، ورفضوا دعوة الإيمان والطاعة
للخالق"، وهو كلام لا يحتاج إلى مزيد التعليق!!
شيوخ السلفية في الميدان
ولا يقتصِـر توظيف الدِّين الإسلامي
لخدمة المرشح الرئاسي وتكفير المعارضين على جماعة الإخوان المسلمين وحسب، بل
يشاركهم العديد من كبار الشيوخ السَّلفيين، الذين يروِّجون للمرشح عبد المنعم أبو
الفتوح، باعتباره مرشحا يحمِـل مشروعا إسلاميا من جانب، وتوافق عليه فئات غير
إسلامية، كالليبراليين والاشتراكيين الثوريين، الذين يدعون صَـراحة إلى كسْـر
الجيش وهدْم الدولة من جانب آخر، مما يجعله مرشّحا توافُـقيا بامتياز، حسب تفسيرهم.
ولا بأس لدى بعض هؤلاء الشيوخ من
استخدام المساجد لشحْـذ الناخبين وراء المرشّـح المفضَّـل، وفي تصوير المُـخالفين،
كآثمين ولا يستحقُّـون العيْـش في المجتمع الإسلامي وسيدخلون النار حتْـما، بل
هناك من وصل إلى حدِّ تكْـفير من يعطي صوتا لغير المرشح الإسلامى.
ولك أن تتصور من يستمع إلى أحد هؤلاء
الشيوخ وقد تمّ تكفيره، إن لم يطع الدعوة السياسية التي تتدثر في صورة فتوى شرعية.
وقد وصل الحال بأحد هؤلاء الشيوخ السلفيين إلى القول، أن فوز أبو الفتوح سيؤدّي
حتما إلى المجتمع الإسلامي، وبعدها لن تكون هناك انتخابات ولا ديمقراطية، لأن أهل
الحلّ والعقْـد، سيقومون بعد ذلك باختيار الحاكم المسلم بالمواصفات الشرعية، وله
أن يحكم إلى ما شاء الله تعالى، ما دام يتفق العلماء على أنه يطبِّـق الشرع، وعلى
المواطنين الطاعة ولا شيء غيرها، أو بمعنى آخر، لتذهب الديمقراطية والحرية
والمواطنة إلى الجحيم.
المعركة الوجودية
مثل هذه الفتاوى والمقولات التي تقحم
الدِّين في خِـضمِّ السياسة الدّنيوية أضحت من الكثرة، بحيث يتصور المرء أن مصر
الآن هي في معركة وجودية بكل معنى الكلمة بين المؤمنين الصالحين وبين الكَـفَـرة
المُـلحدين، لا يصِح فيها إلا الإنتصار أو الشهادة، وليست مجرّد منافسة وِفق
تقاليد ديمقراطية جديدة تطمح إليها البلاد بين مرشّحين يتوق كل منهم للفوز بمنصب
الرئيس، ليقود الأمة وِفق برنامج عمل محدّد ليُـساعدها على النهوض وإعطاء الحقوق
لأصحابها.
الفتاوى الدِّينية، ليست السلاح
الوحيد للإخوان والسلفيين، ومن والاهم من نواب ادَّعَـوا يوما أنهم مناهضون
للإخوان وفِكرهم ومنشقّـون عنهم، تنظيميا وفكريا.
فهناك البرلمان أيضا الذي تحوّل من
مؤسسة تشرّع للمصريين جميعا، فإذا به يخضَع لاعتبارات المنافسة الإنتخابية ويسن ّ
تعديلات مفاجئة في قانون مباشرة الحقوق السياسية ومُصمّمة لإبعاد أشخاص بعيْـنهم
من السباق الرئاسي، وفي المقدمة الفريق أحمد شفيق وعمر سليمان، نائب الرئيس في
أيام مبارك الأخيرة.
كما أقرّ البرلمان تعديلات على قانون
تشكيل المحكمة الدستورية، وهو ما يخصّ السلطة القضائية، دون الرجوع إليها، كما هو
العُـرف المعمول به في برلمانات العالم كله. مما أربك المشهد السياسي والقانوني
العام، إلى أن تم حسم الأمر من قبل المحكمة الإدارية العليا، ببطلان بعض هذه
التعديلات وإخضاع البعض الآخر للمحكمة الدستورية للبتِّ فيها، من ناحية مدى
دستوريتها.
لكن النتيجة العامة، ظلت واضحة
تماما، وهي أن الأكثرية الإسلامية في البرلمان تستخدِم هذه المؤسسة التشريعية
الرّقابية لأغراض حِـزبية مَحْـضة، وأنها على استعداد تامّ للإفتئات على حقوق
السلطات الأخرى، ما دام الأمر يصب في مصلحتها الخاصة والضيِّـقة جدا، الأمر الذي
دفع بالكثيرين ممَّـن أيَّـدوا الإخوان في الإنتخابات البرلمانية، تعويضا لهم عن
معاناتهم في السابق، إلى القلق من هكذا سلوك، إن استمر بعد انتخاب الرئيس الجديد،
فضلا عن الشعور بالنَّـدم وفقدان الثقة في الإسلاميين كلهم وفي شعاراتهم الخادعة.
المدنيون والليبراليون والغيبوبة
السياسية
ورغم ذلك، تبدو التيارات المدنية،
بما فيها الليبرالية، وكأنها في غيبوبة سياسية. فهي من جانب، منقسِـمة على نفسها،
بل يضرب بعضها بعضا باسم الإنتصار للثورة وأهدافها أحيانا وباسم إسقاط حكم العسكر
أحيانا أخرى وباسم تأييد المعارضين للمجلس العسكري أيا كانوا، من جانب ثالث. ومن
وراء ذلك، رغبة في استمرار الغضب والتظاهر والإبتعاد عن الإلتزام المؤسسي والحزبي،
والتمسُّـك بالعمل الإحتجاجي، دون التقدم، ولو خطوة إلى الأمام.
والفكرة الجامعة بين هؤلاء جميعا، هي
منع عودة أيِّ من رموز النظام السابق، خاصة الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في
الأيام العشرة الأخيرة لحُـكم مبارك، وعمرو موسى، أمين عام جامعة الدول العربية،
ومن قبل وزير خارجية مصر لمدة عقد كامل فترة التسعينات من القرن الماضي.
ويقول دُعاة الثورة الدائمة ومعهم
الإسلام السياسي، بشقَّـيْـه، الإخوان والسلفيين، إن فوز أحد هذين الرّمزين يعني
الرِدّة عن الثورة وأهدافها. ولا يهتَـم هؤلاء بمِـعيار نزاهة الإنتخابات وشفافيتها
ولا بحرية الإختيار ولا قواعد الديمقراطية. فالمهِـم هو منع رمز الماضي، مهْـما
كانت شعبيته لدى المواطنين. وإجمالا، يبدو الأمر عاطفيا لدى هؤلاء الثوريين إلى حد
بعيد.
أحمد شفيق.. مفاجــأة الصعود
الصاروخي
في الوقت ذاته، تتوالى المفاجآت. فالفريق
شفيق، ذو الخلفية العسكرية وصاحب الوجه الهادئ، ولكنه الواثق من نفسه والمتحدِّث
بعفوية في كثير من الأحيان، ورغم أنه يتلقى الضّربات من كل اتجاه، وآخرها
اتِّـهامه بالفساد وبيع أراضي شاسعة لنجلي مبارك قبل 18 عاما بسِـعر بخس، حين كان
رئيسا لمجلس إدارة الجمعية لرعاية ضباط القوات الجوية (رد عليها شفيق بالوثائق
مفندا إياها)، واتِّـهامه أيضا بإهدار مليارات الدولارات، حسب بيان أحد نواب حزب
الحرية والعدالة في البرلمان، حين كان الفريق شفيق وزيرا للطيران المدني لمدة عشر
سنوات، وهما الإتِّـهامان اللذان يخضعان الآن للتحقيق القضائي من قِـبل النائب
العام.
ورغم ذلك، فشعبية الرجل تزداد
بسُـرعة الصاروخ، وِفقا لاستطلاعات الرأي المنشورة في الأيام القليلة الماضية. والتفسير
الأقرب للدِّقَّـة، يكمُـن في خطاب الرجل، والذي يَعِـد فيه باستعادة الأمن في
فترة المائة يوم الأولى من حُـكمه، إن فاز رئيسا، ومنح الفلاّحين بعض المزايا، من
قبيل إسقاط الديون الزراعية عليهم فورا وحماية الدولة من أن تقع في أيدى تيار واحد
في إسقاط مباشر على المسعى المُـلفت للنظر لجماعة الإخوان المسلمين، للإستئثار
بمناصب الرئاسة والحكومة والبرلمان في وقت واحد، بزعم أن هذا "التكويش" على
مؤسسات الدولة، هو من أجل الله تعالى، حسب قول أحد الدّعاة الإخوانيين في مهرجان
انتخابي لدعم مرسي.
في الأثناء، يشعر الكثير من بسطاء
المصريين ومنسوبي الطبقة المتوسطة، وكثير من الأقباط الذين تضرّروا من الانفلات
الأمني والاحتجاجات الفِـئوية المتكررة وغيْـر المنضبطة، بالقلق من سطْـوة تيار
الإسلام السياسي، الذي ظهر متسرِّعا في السيطرة على الدولة كلها ومُـصرّا على
الصِّـراع مع الجيش المصري، فضلا عن الرفض الشديد لشعارات القِـوى الشبابية
الدّاعية دوْما للهَـدم دون البناء، والصراع دون الإستقرار.. وهم يرون أن خلفِـية
الرجل العسكرية سوف تساعد على احتواء الكثير من قلق المؤسسة العسكرية ووضع تيار
الإسلام السياسي في حجمه الحقيقي، والحفاظ على مدنية الدولة، وعدم الوقوع في فخ
مواجهة عسكرية غيْـر مبررة مع إسرائيل، كما يبشِّـر بذلك مرشّحون رئاسيون آخرون،
محسوبون على الإسلام السياسي وعلى قوى التغيير الثوري الفوري.
يُضاف إلى ذلك أن شفيق، هو إبن
الدولة وأحد كوادرها، المشهود لهم بالنجاح في إدارة مرفق الطيران المدني لمدة عقد
كامل. وأخيرا، لديه فِـكر اقتصادي ليبرالي، يمكنه أن يُنعش الاقتصاد المصري في
فترة وجيزة، فضلا عن إدراكه التامّ لمقتضيات الأمن القومي ومتطلَّـبات التعاون مع
المؤسسة العسكرية.
المفضلون لدى قوى الثورة
ما يراه منسوبو الطبقة الوسطى
المصرية، الذين يضعون شفيق في مقدمة استطلاعات الرأي، متجاوزا بذلك عمرو موسى،
الذي احتفظ بهذا الموقع طيلة الأشهر الخمسة الماضية، هو محلّ إدانة من القِـوى
التي ترى نفسها صاحبة الثورة الأمينة على أهدافها، والتي تفضل مرشحا عُـرفت عنه
معارضته التامة للنظام السابق، أو على الأقل لم يرتبط بأي شكل بمؤسساتها، حتى وإن
لم يثبت عليه أي فساد أو ترويج لمشروع التوريث المباركي المستهجَـن. وفي مقدمة
المرشحين المفضَّـلين لقوى الثورة، د. عبد المنعم أبو الفتوح، يليه حمدين صباحي الناصري
صاحب شعار "واحد منَّـنا"، ثم المحامي الشاب خالد علي، الذى يأتي دائما
في ذيل استطلاعات الرأي، ولكنه يُـصِـرّ على أنه سيحقق المفاجأة الكُـبرى.
أما عمرو موسى، الوجه المدني ذو
الخِـبرات الدولية العريضة، فيجِـد التأييد من حزب الوفد العريق، وبعض رموز
ليبرالية ومدنية في أحزاب مختلفة، منها الجديد والثوري، ولكنها تستنكف إعلانها
الوقوف وراء موسى صراحة، حتى لا توصم بأنه تدعَـم رمزا من حُـكم مبارك المخلوع. ويبقى
الرجل له شعبيته الكبيرة ومؤيِّـديه الذين يجدونه رجل المرحلة، القادِر على الحديث
مع كل الأطراف، دون استثناء.
وفى ظل هذه البيئة المليئة
بالمُـفاجآت والإرتباكات والإنقلابات السياسية المتوقّـعة وغير المتوقعة، يؤكِّـد
المجلس العسكري على إجراء الإنتخابات "بكل نزاهة وشفافية" و"كل
أمْـن وأمان"، وعلى أنها ستكون "حديث العالم بأسْـره، وستخضع للرّقابة
الدولية والمحلية على السواء"، وأن طموحه هو تسليم البلاد إلى رئيس مُـنتخَـب
والعودة إلى المهمة الأم: الدفاع عن الوطن.
الآملون خيْـرا، يميلون إلى تصديق
هذه الوعود، بل يرونها حقيقة دامِـغة. أما المكابرون دوْما والمتشكِّـكون
والمستعدّون للنزول للشارع، بغض النظر عن أي شيء، فما زالوا ينتقِـدون ويكذِّبون. وبين
هذين الطرفين، تعيش مصر أكثر الفترات قلقا وترقُّـبا في حياتها المعاصرة. فكيف
سيأتي الغد؟ لننتظر بِـضعة أيام وسنرى.(سويس انفو)
0 التعليقات :
إرسال تعليق