بقلم: فؤاد
مطر
يقترب
المشهد السوري من الحالة الفيتنامية يوم كانت هنالك مواجهة طاحنة بين فيتنام
الشمالية (عاصمتها هانوي) من جهة، المدعومة من الاتحاد السوفياتي الذي كان يومها،
أي في ستينات القرن العشرين، في ذروة الشأن العسكري، وإلى حد أن الغرب الأوروبي
كان يخشى قضم دول من شرقه، وأن الولايات المتحدة كانت تحسب له الحساب، وبين فيتنام
الجنوبية (عاصمتها سايغون) من أخرى والتي كانت متحالفة مع الولايات المتحدة. وطوال
19 سنة استغرقتها هذه المواجهة قبل أن تنجح قوات الشمال في إلحاق هزيمة بالجنوب
وتضطر القوات الأميركية التي كان وصل تعدادها على مراحل إلى نصف مليون عسكري،
إضافة إلى نحو سبعين ألف جندي من حلفاء صغار الشأن للولايات المتحدة (نيوزيلندا،
الفلبين، تايلاند، على سبيل المثال) إلى الانسحاب، ثم تستغل قوات الشمال الارتباك
الذي حدث في التاسع من شهر أغسطس (آب) 1974 والمتمثل في أن فضيحة التنصت التي عرفت
بـ«ووترغيت» أجبرت الرئيس ريتشارد نيكسون على الاستقالة، فيبدأ الجنرال جياب بطل
فيتنام الشمالية الانقضاض على العاصمة الجنوبية سايغون ويضطر جنرالات القوات
الأميركية إلى المغادرة فرارا بطائرات الهليكوبتر التي كانت تحط على سطح مقار
القيادات لتبدأ بعد ذلك في داخل الولايات المتحدة تداعيات فواجع التدخل الأميركي
في فيتنام، وهي تداعيات مستمرة على الصعيد النفسي إلى الآن.
علما بأن
الرئيس جورج بوش الأب ثم الرئيس جورج بوش الابن افترضا أنهما ـ«انتصار» يحققانه في
العراق قد يجعلان الجرح الفيتنامي يلتئم. لكن ذلك على ما يبدو لم يتحقق في العراق،
ولا نظن أنه سيكون أفضل حالا في ليبيا، تاركين الأمر إلى الرئيس باراك أوباما لعل
وعسى - في اعتقادهما - يبرئ الجرح ـ«انتصار» يحققه على «إيران النووية» وذراعها
الصاروخية في لبنان والتي جدد الأمين العام حزب الله السيد حسن نصر الله مساء
الأربعاء الماضي - يوم فاجعة الحزب والمقاومة ـ«شهداء الجيش العقائدي» في عملية
التفجير النوعية في دمشق - التأكيد على القوة الصاروخية كما ونوعا، مضيفا أنها
مهداة من «الجيش السوري» الذي حقق تقدما نوعيا في التصنيع العسكري الصاروخي تهابه
إسرائيل.
هذا
الإيجاز لما حدث في فيتنام يأتي في ضوء اقتحام «سوريا الشمالية» إذا جاز التصنيف،
أي تلك التي تخوض للشهر السادس عشر على التوالي في المنطقة الممتدة من المحافظة
الأكبر حمص، حاضنة رستن مصطفى ومناف طلاس، إلى حلب والمدن والبلدات المتاخمة
للحدود مع الأردن وتركيا والعراق، لعاصمة الأمويين (سايغون سوريا الجنوبية) تشبيها
وليس تحديدا جغرافيا. وهذا الاقتحام، المدعوم عمليا من حلفاء محافظين ومن خارج
الحدود، وكانوا ذات سنوات السند القومي لسوريا الأسد الابن بعد سوريا الأسد الأب،
جاء ليؤكد أنه ليس أمرا عصيا على «سوريا الشمالية» تحقيق الاختراق الأكثر خطورة في
القلعة الأمنية للنظام. وهو تماما مثل المحاولات الحثيثة الكثيرة من جانب قوات
هانوي للبدء بالسيطرة المتدرجة على «سايغون» عاصمة الجنوب الفيتنامي المحروسة من
قوات أميركية، وكما لم تحدث حراسة بهذه الدقة من قبل.
وهذا الإصرار على محاولات السيطرة يعود إلى أنه
مهما حققت قوات الشمال انتصارات فإنها من دون إثبات وجودها عسكريا في العاصمة «سايغون»
تكون خاسرة. ومن هنا فإن الاختراق الأمني الذي حدث يوم الأربعاء 18 يوليو 2012 في
مبنى الأمن القومي في دمشق يندرج في السياق نفسه حول ما نشير إليه من أهمية أن أي
سيطرة للمنتفضين على النظام الذي يقوده الرئيس بشار، خارج العاصمة تبقى منقوصة
الفاعلية.
ورغم نوعية
الاختراق المشار إليه يبقى صمود النظام عنصر تمديد للصراع مع أن ضحايا التفجير غير
المحسوم أمر فاعله كانوا قيادات الصف الأول في الإدارة الأمنية للصراع في سوريا (وزير
الدفاع العماد داود راجحة ونائبه آصف شوكت - زوج الابنة الوحيدة للرئيس حافظ
الأسد، شقيقة الرئيس بشار وشقيقة العميد ماهر - ووزير الداخلية اللواء محمد الشعار
والعماد حسن تركماني رئيس «خلية الأزمة السورية»).. هذا إضافة إلى رئيس مكتب الأمن
القومي اللواء هشام بختياري الذي أعلن لاحقا عن مقتله أيضا، وإلى البعض من
القيادات الأمنية الذين نقلوا إلى المستشفى وبقيت أسماؤهم وحالتهم الصحية طي
الكتمان.
قد تبدو
بين الذي جرى في فيتنام من عام 1956 وحتى عام 1975 والذي بدأ يحدث قبل سنة وأربعة
أشهر في سوريا - ونأمل أن لا يستغرق المزيد من الزمن - مقارنة تدعو إلى الاستغراب.
ولكن هنالك الكثير من أوجه الشبه.
هنالك موقف
روسيا مع النظام (عدم تيسير التسوية السياسية) لا يبدو حتى الآن نزيها تماما كموقف
أميركا هاري ترومان وجون كيندي وليندون جونسون وريتشارد نيكسون مع فيتنام الجنوبية
ومساندة القوات الأميركية للقوات الجنوبية في معارك ضد الشماليين تخللها حدوث
مجازر مثل مجازر ارتكبتها قوات من النظام السوري في أكثر من بلدة سورية أكثرها
بشاعة تلك التي حدثت في «تريمسة» إحدى بلدات ريف مدينة حماه.
ومن الجائز
القول: إن هذه المجازر التي تكررت وكان من الممكن عدم تكرارها لو أنها لقيت إدانات
قوية من جانب الحليف الإيراني والحليف الروسي والحليف اللبناني للنظام السوري
وبقوة مشاعر الحزن على «شهداء تفجير مبنى الأمن القومي» التي أبداها هؤلاء وبالذات
السيد حسن نصر الله الأمين العام حزب الله في خطاب «الذكرى السادسة لانتصار
المقاومة في تموز»... من الجائز القول إن مسلسل التدمير الممنهج لبيوت الناس
وعمليات التهجير التي أوجدت ظاهرة «السوري اللاجئ» والمجازر المشار إليها والتي
تشبه في تفاصيلها تلك المجزرة التي ارتكبها عام 1968 في قرية فيتنامية ضابط أميركي
يدعى ويليام كالي وذهب ضحيتها عشرات الأشخاص العزل وبينهم نساء وأطفال، وكذلك
الاستياء البوذي من استئثار الكاثوليك في حكْم فيتنام الجنوبية والتهام أفراد في
طائفة واحدة لمكاسب البلاد على حساب مصالح العباد والقبضة الأمنية لجنرالات وضباط
جماعة الحكم في العاصمة «سايغون»، هي في مجملها دوافع إلى المزيد من الانشقاقات
التي أوصلت الحاكمين الجنوبيين إلى السقوط وبالذات بعد انصراف أميركا عنهم التي
خسرت نحو 60 ألف قتيل ونحو نصف مليون جريح ومقعد ومشوه نفسيا.
كما أن
المجازر والتدمير المتواصل والاستئثار من جانب الطائفة (في فيتنام الطائفة
الكاثوليكية مقابل الأكثرية البوذية وفي سوريا الطائفة العلوية مقابل الأكثرية
السنية) هي التي أوجبت البدء بنقل المواجهة إلى دمشق (سايغون السورية) الأمر الذي
يعني في ضوء ما حدث يوم الأربعاء 18 يوليو 2012 وكيف أن رموز التخطيط في المواجهة
الأمنية قضوا وبفعل تفجير له صفة اللغز لجهة الفاعل وأسلوب التنفيذ، أن الحلفاء
الأساسيين وبالذات الروسي والإيراني واللبناني سيعيدون تقييم الموقف.
بل إن
الروسي سيفضل الانصراف على نحو ما فعل الأميركي في فيتنام تاركا أهل الشمال
يقتحمون جنوبهم ويوحدون بفضل شجاعة جنرالهم جياب وملهمهم «هوشي منه» البلاد
مستبدلين تسمية العاصمة «سايغون» باسم الملهم. وبعد عقدين من الزمن بدأ المسؤولون
الأميركيون يحطون الرحال بين الحين والآخر بطائراتهم المدنية في مطار العاصمة
الفيتنامية «هوشي منه» لبناء علاقات مستقيمة بأمل إبراء جراح الماضي.
لعل وعسى
لا تطول محنة «سوريا الفيتنامية» أو الطبعة السورية من الحالة التي عاشتها فيتنام،
ثم انتهى الأمر إلى أنها دولة مستقرة وذات تاريخ مشرف.(الشرق الأوسط)
0 التعليقات :
إرسال تعليق