بقلم: يوسف الديني
تشير
النزاعات الحادة بين «الفاعلين» في المجتمعات العربية والإسلامية في مرحلة ما بعد
الثورة، التي طالت الجميع بما فيها الدول التي كانت بمنأى عن رياحها، لكنها في قلب
عواصف التأثر والتأثير كما هو الحال في دول الخليج، إلى شيء أساسي ومهم، وهو عودة
الهويات الصغيرة الدينية بشكل رئيس، التي تشمل الطائفية منها والجهوية وحتى
الهويات الصغيرة التي عادة ما يتم تجاهلها مثل النزاع بين تيارات التطرف الصغيرة
والمعتدلين والتحديثيين داخل الإطار الواحد.
وبالتالي
تآكل مفهوم «المواطنة» المتكئ حصريا على مفهوم الدولة الوطنية التي مسها الكثير من
التغير والتغيير بسبب عوامل كثيرة كانت «الثورات» بما تخلقه من فوضى طبيعية أحد
أهم تحدياتها، وعكس ما كان في السابق من احتياج الباحث في الاجتماع السياسي
والمفاهيم المجتمعية العامة إلى جهد ووقت كبير لفحص عينات من تحولات أفكار
الفاعلين في المجتمع، فإن أحد امتيازات «الإعلام الجديد» أنها وفرت على راصدي
الحراك المجتمعي في البلدان العربية جهد رصدها، بعد أن بات من السهل اكتشافها عبر
أقانيم «الإعلام الجديد» بتويتره وفيس بوكه وحتى المجموعات البريدية التي يتسع
فيها نقاش البحث بحكم نخبويتها واتساع المساحة للرد والنقاش.
صحيح جدا
أن نسب الفاعلين على شبكة الإنترنت لا تعطي مؤشرا مجتمعيا عاما بحكم أن مستخدميها
لا يزالون أقلية - تتسع باطراد - إذا ما قورنوا بأعداد الشعوب، إضافة إلى كونها
تعبر في كثير منها عن حملات مؤسسة بماكينات حزبية «الحزب بمفهوم السياسي الضيق»،
أو الأحزاب الفكرية غير المسجلة رسميا أو المحظورة كتيارات الإسلام السياسي بالغة
التأثير بسبب غياب التأطير الحزبي.
لكن مع قلة
«العدد» فإن ما لا تخطئه العين هو أن هذه الأقليات هي الفاعلة في صناعة الخطابات
التي يبتلعها المجتمع عبر الموائد التقليدية «التلفاز، الصحافة الورقية، مصادر
التلقي الدينية»، فنجوم الشباك الإلكتروني هم في نهاية المطاف فاعلون في الواقع
غير الافتراضي ولكنهم يتنافسون في اكتساب مساحات جماهيرية أعرض وبطريقة مذهلة، أحد
الأمثلة الطريفة تهنئة أحد الرموز الدينية لداعية حقق رقما قياسيا في الأتباع / المتابعين
«Followers» الذين تجاوزوا
المليونين، وهو بكل حال رقم ضئيل جدا إذا ما قورن في السياق العالمي لظاهرة
المتابعين التي لا تكتسب أي بُعد «قيمي» وإنما «تسويقي» لمن يعرف جيدا «تويتر» كظاهرة
طبيعية، وليست مضمارا لحروب طائفية واستقطابات سياسية مقنعة.
ما أريد
قوله هنا أن «خطابات» ما بعد الثورات ترسل مؤشرات سلبية جدا على تراجع مفاهيم
المواطنة والدولة المدنية الحديثة التي لا تفرق بين مواطنيها، في حين أن هذا
التراجع يتم بأسلحة «الحداثة» نفسها، وهو الأمر الذي التبس على كثيرين فصاروا
يقرأون في هذا الالتباس المفاهيمي تحولا نحو المزيد من الليبرالية وتفاؤلا بمستقبل
«مدني»، في حين أن فصل الأدوات عن المضامين امتياز أصيل لمجتمعاتنا حتى في أكثر
محاولات الفصل حداثة، فالحالة «التوفيقية» هي حالة فكرية عربية بامتياز منذ
محاولات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وباقي نماذج مشاريع النهضة القائمة على
هذا النوع من الفصل والتي تدهورت في نتائجها بشكل تنازلي وصولا إلى أكثر الحالات
تلفيقية، التي عرفتها الجماعات المسلحة «القاعدية» والتي أزعم أنها كانت في فترة
ما قبل الثورات الأكثر قوة في استخدام «الحداثة» كأدوات يمكن تفخيخها بمضامين
متطرفة رغم أنها الأقل عددا في كل التيارات الفاعلة في المجتمعات العربية، سواء في
السياق الإسلاموي أو حتى التيارات الليبرالية واليسارية.
في ملاحظة
ذكية من المفكر عبد الله العروي حيث ارتأى أن جزءا من أزمة الفكر العربي هو أنه قرأ
الحداثة كشعار تغييري قابل للاستخدام، وليس كمنظومة فكرية متكاملة، ولذلك فشل
النموذجان اللذان استخدما الحداثة كطوق نجاة بعيدا عن قراءتها خارج سياقها الخاص
والمعقد كما هو الحال في التيارات التحديثية التي جربتها أقطار عربية طيلة عقود،
كما أنها فشلت في التجارب التي تنظر إليها كوسائل «دعوية» يمكن أسلمتها وإعادة
إنتاج الخطابات «الأصولية» عبرها دون أن تتأثر بما تحمله من مفاهيم المساواة وقيم
التعددية والحرية.
بعيدا عن
السياق الفكري للظاهرة وعودة إلى «الواقع السياسي» فإن إحدى كبرى أزمات حالة «التشظي»
التي تعيشها المجتمعات بعد الثورة هي تآكل مفهوم الدولة الوطنية، التي عادة ما يتم
شيطنتها وحصرها في السياق السلطوي، وهو جزء من ارتباكات مفاهيم الدولة والسلطة
والنظام الحاكم في التلقي للحالة السياسية، تآكل الدولة الوطنية هو جزء من «فوضى» الثورات
حول العلاقات التكاملية بين سلطة القانون كمجال عمومي يضمن المساواة بين المواطنين
للدولة القطرية التي عادة ما يتم إلغاء حدودها في الواجبات وتستدعى بقوة في الحقوق
إلى درجة تقترب من مفهوم الرعاية.
اختزال
الدول في مفهوم السلطة وإلغاء البناء التكاملي لصيرورتها التاريخية وما تحمله من
تراكم للتجربة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي ما كونه من «هوية» لصالح
شعارات آيديولوجية يصب في صالح تآكل الدولة المدنية الحديثة لصالح حالة «اللادولة»
بما تحمله من فوضى وانعدام للاستقرار، هذه الحالة التي عادة ما تزدهر في أزمة
التحولات السياسية الكبرى تتخذ للأسف أشكالا ومضامين مختلفة، بدءا من مفهوم «الخلافة»
المتطرف وحتى حالة الاستلاب السياسي الذي تعيشه بعض النخب ذات الطابع الليبرالي أو
اليساري لصالح كيانات سياسية أخرى تتفق معها في رؤيتها الضيقة.
العودة إلى
المجال العمومي بما يعنيه من الالتزام باشتراطات دولة المواطنة الحديثة يتطلب
حوارا شفافا عن أسباب النكوص في مفاهيم المواطنة لصالح «الهويات الصغيرة»، إلا أن
حالة الاستقطاب السياسي والظرف الصعب الذي تعيشه المنطقة بما تمليه من تغيرات
هائلة على مستوى «الجيوسياسية» والصراعات الإقليمية ربما أثقل من حمولات الأنظمة
السياسية، لكنه حتما لا يعفي المؤسسات البحثية كما النخب الثقافية والدينية عن
إعادة التفكير في مآلات حالة «التشظي» التي ليست في مصلحة أحد، ما نحتاج إليه أن
نطلق عصفور «تويتر» من سجن الآيديولوجيا ونعيده إلى وظيفته الحقيقية كأداة للحوار
والتواصل الإنساني.(الشرق الأوسط)
0 التعليقات :
إرسال تعليق