بقلم: عائشة
سيف السويدي
الوضع
المرتبك في مصر بعد الانتخابات الرئاسية، والأفق المُلبّد بالغيوم أمام الرئيس
المنتخب الدكتور محمد مرسي تختصرها جُملة شهيرة للكوميدي السوري الراحل نهاد قلعي
خلال دوره كـ"حسني البورظان" في مسلسل "صح النوم" عندما كان
يُردّد دوماً: "إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في البرازيل لا بد أن نعرف ماذا
يجري في ايطاليا، وإذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في ايطاليا لا بد أن نعرف ماذا
يجري في البرازيل"!
قد تكون
الثورة قد انتصرت بإسقاط حسني مبارك والكثير من دهاقنة النظام البائد والخروج بأول
انتخابات نزيهة في تاريخ مصر بعيداً عن انتخابات الـ(99.9%) الهزلية، ولكنه انتصار
يبدو مؤجل الفرح لحين معرفة ماذا سيحدث بعد أن أدى الدكتور مرسي القسم وانتقال
الصلاحيات التنفيذية له أو بعضاً منها، فالسفينة لا زالت غارقة والشواطئ الآمنة لا
زالت بعيدة للغاية، والوسائل المتاحة للإنقاذ محدودةٌ العدد والنوعية. فما مضى كان
الجزء الأسهل في مسار الثورة والتصحيح وما هو آتٍ أصعب بكثير وأشد تعقيداً وأعضل
مرضاً، وأي خطأ في البدايات قد لا يمكن تداركه لاحقاً!
في خطابه
الرئاسي الأول كان الدكتور محمد مرسي هادئاً وودوداً وشديد التواضع وأفاض في
التأكيد على أهمية المشاركة والعدالة الاجتماعية وكون مصر لكل المصريين في رسالةٍ
تطمينية لخصومه من فريق أحمد شفيق ومن في صفهم من الأقباط والعسكر وكبار رجال
الأعمال والفنانين. ثم كانت الرسالة الأخرى بالتأكيد على احترام كافة المعاهدات
والمواثيق الدولية في نصٍ صريح للولايات المتحدة واسرائيل من أن الحكومة المنتخبة
ستحترم اتفاقية كامب ديفيد، بالإضافة لكونها رسالة للمجلس العسكري بأنه لا يفكر
مطلقاً في إدخال البلد المنهار اقتصادياً في أية صراعات أو تأزيمات جديدة مع دول
الجوار.
الخطاب
استند في مقاطع كثيرة منه إلى خُطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند توليه
الخلافة، وهو أمرٌ وإن كان جميلاُ لعظمة المبادئ التي تضمنها الخطاب، إلا أنّ كل
ذلك لا يسد رمق جائع أو يأوي أسرة لا تملك مقومات الحياة، ولئن قام مشكوراً بإزالة
مظاهر التقديس السابقة للرؤساء بمنع تعليق صوره في مؤسسات الدولة وأصرّ على صلاة
الفجر جماعةً في ذات المسجد الذي اعتاد أن يؤمه مما أربك حُرّاسه ومسؤولي الأمن،
إلا أنه من المهم أن يعي أن حياته الخاصة تبقى ملكاً شخصياً له لا يهم الآخرين - رغم
تأكيدنا على خيرية صلاح واستقامة الرئيس في حياته الخاصة - فما يهم الناس هو أن
يروا يوماً مختلفاً كُليّةً عن الأمس الكئيب قبل أن يعدهم بغدٍ مشرق، فالوعود قد
انتهى أوانها منذ لحظة نطق القاضي فاروق سلطان بفوزه بانتخابات الرئاسة بفارقٍ
طفيف عن أحمد شفيق، وما ينتظره المصريون وغير المصريين حالياً هو عمل مدروس وخطط
واضحة أكثر تفصيلاً وأكبر أهمية من كثيرٍ مما طُرح في جدول الرئيس للمئة يوم
الأولى والتي أصابت البعض بالاحباط لكونها بدت كروزنامة عمدة مدينة وليس رئيساً
لجمهورية كبرى!
مصر ترزح
تحت وطأة وضع اقتصادي شديد التأزيم، وهو وضع لا يمكن تجاوزه دون اجراء مصالحة
وطنية مع كافة القوى الشعبية، مع ضرورة أن لا تنتقل الثورة من مرحلة حزب مبارك إلى
حزب الإخوان المسلمين. فتشكيل حكومة ائتلافية تضم كافة أطياف الأوساط السياسية من
قوميين وليبراليين ويساريين واسلاميين مطلبٌ حرجٌ لا يمكن المماطلة فيه، وخروج
الرئيس من جلباب الحزب الواحد لا بد أن يكون ممارسةً وسلوكاً ولا يكفي مجرد
الاستقالة منه كتأكيد على المنحى التوافقي المطلوب. وحتى لا نظلم الرئيس محمد مرسي
لا بد أن نُشيد بتواصله المكثف مع قادة الأحزاب واجتماعه بهم وتأكيده على عدم
رغبته في الاستئثار لخطٍ واحد بالسلطة وأنّ المشاركة هي خياره الذي سينتهجه مع
رفضه لمبدأ التخوين والإقصاء، كما كان صريحاً في التأكيد على خلق "دولةٍ
مدنية" وعلى حقوق الأقباط والمرأة وفي تقديره للفن وهي ملفاتٍ ساخنة كانت محل
شك من الآخرين على ممثل حزب ديني!
المأزق
الأول والذي تحاشاه الدكتور مرسي بحل توفيقي جيد كان الجهة التي سيؤدي أمامها
القسم، فحسب التعديل الدستوري المكمّل لا بد أن يقوم بتأدية القسم أمام المحكمة
الدستورية العليا، والمشكلة في هذا الأمر أن ذلك سيعتبره شباب الثورة والعديد من
القوى الوطنية خيانةً لهم وقبولاً صريحاً منه بحلّ البرلمان ومجلس الشعب والذي تم
انتخابه بطريقة سليمة وموافقةً على الصلاحيات الهائلة التي استأثر بها المجلس
العسكري لنفسه، بينما قيامه كما طالبت الأحزاب بتأدية القسم أمام البرلمان الذي تم
حلّه فعلاً، سيكون خرقاً دستورياً باستطاعة المجلس العسكري أن يُصعّده لتجريده من
منصب الرئيس المنتخب. لكن تفتقت ذهنية مرسي عن حلٍ وسط أسترضى جميع الأطراف وهو
أمرٌ يُحسب له، إذ قام بتأدية القسم بصورة رمزية أمام الجماهير في ميدان التحرير
وألقى كلمة تؤكد أنهم مصدر السلطة الوحيد في الجمهورية وأنه سيكون وفياً لأهداف
ومطالب الثورة، ثم قام صبيحة اليوم التالي بتأدية القسم أمام المحكمة الدستورية
العليا وأُعلن رئيساً رسميا لجمهورية مصر العربية.
المأزق
الآخر هو الاقتصاد المنهار، إذ لا يبدو أنّ الوضع سيكون ممكن المعالجة ما لم يتم
رأب الصدع بين الرئيس وحزبه الأم من جهة وبين الداعمين الخليجيين وتحديداً
السعودية والإمارات من جهة ثانية. فقد كان من البيّن توتر العلاقة بين الطرفين
لدرجة كبيرة نتيجة لممارسات قام بها منتسبو الجماعة في البلدين المذكورين والتي
اعتبرت إخلالاً بالأمن القومي ومزايدة على سلامة البلدين باستغلال أوضاع ثورات
الربيع العربي لتأجيج بعض الملفات ومحاولة اجترار ثوراتٍ داخلية في مجتمعاتٍ
معروفة بتماسك النسيج الاجتماعي بها وتقارب خطوط التواصل مع القيادات الرسمية.
ثم كان
خروج الأب الروحي للجماعة الدكتور يوسف القرضاوي وتهجمه على حكومة الإمارات في
قضية داخلية خروجاً سافراً على النص ومساساً غير مقبول بسيادة الدولة من رجل دين
لا يملك صفةً تخوله ذلك التهديد الذي أطلقه، ثم أتى تعليق المتحدث باسم جماعة
الإخوان المسلمين بمصر محمود غزلان ليصب البنزين على النار بتهديد جديد بأنّ جموع
المسلمين ستتحرّك باتجاه الإمارات. ومن المهم للرئيس أن يتفهم أن المصلحة متبادلة
بين مصر ودول الخليج العربي وأنّ شطط جماعته ونزقها السياسي لن يكون مطلقاً
مقبولاً من الخليجيين مالم يتبرأ من ذلك الخط والمطبلين له ومن يسير بأوامرهم في
داخل تلك الدول!
اقتصاد مصر
بحاجة ماسّة لتدفقات مالية هائلة حتى يستطيع الوقوف على قدميه، إذ أنّ التراجع
المدوّي لاحتياطي العملة الأجنبية لدى البنك المركزي من 36 مليار دولار العام
الماضي إلى 15 مليار دولار حالياً، يهدد قدرة البلاد على الاستمرار في استيراد
المواد الأساسية مثل القمح والسكر والزيت والبنزين إذ لا يكفي لأكثر من ثلاثة شهور
لا غير، كما أنّ المؤشرات تنبيء إلى عجز حقيقي في الميزانية القادمة والتي تدخل
حيز التنفيذ في الأول من يونيو القادم بقيمة 38 مليار دولار أميركي مقابل عجز
بقيمة 24 مليار دولار للعام الماضي مما يُنذر بأزمةٍ خانقة ليس من باب المبالغة أن
نقول أنها أسوأ من أزمة اليونان والتي تعصف بمجموعة اليورو بأكملها، ففي حين أن
العجز يمثل 9% في ميزانية اليونان فإنه يقفز إلى 12.8% في الحالة المصرية، كما أنّ
القرض الذي شارفت فيه مصر على التحصّل عليه من صندوق النقد الدولي والبالغ 2.3
مليار دولار فإنّه من المهم أن نعرف أنه لن يُغطي سوى 8% من قيمة العجز، وما يجعل
الأمر أسوأ أن الحكومة المؤقتة اقترضت ستة مليارات من الدولارات من خلال أذون
خزانة مقومة بالدولار، ويتعين على حكومة الدكتور مرسي الجديدة - والتي تفتقر
للعملة - سدادها أو النجاح في مد أجلها عند استحقاق سداد أول هذه الأذون في نوفمبر
القادم!
مستقبل مصر
السياسي كذلك لا يُبشّر كثيراً، فهو بلا شك قد تخلّص من الديكتاتورية الوراثية
برحيل حسني مبارك، لكنه انتقل إلى دكتاتورية العسكر، تماماً كما حدث من قبل لتركيا
منذ حقبة مصطفى كمال أتاتورك حتى انتهت على يد ملهم الأتراك الجديد رجب طيب
أردوغان، إذ تذكر تأكيداً لذلك صحيفة واشنطن بوست أن المجلس العسكري بقيادة المشير
طنطاوي يريد تكرار النموذج التركي في جمهورية مصر ما بعد الثورة، وتحديداً تركيا
الثمانينات والتسعينات عندما خرج ما يعرف بمصطلح "الدولة العميقة" حيث
تتركز كافة الصلاحيات في يد الجنرالات مع منح بعض الصلاحيات التنفيذية للرئيس
لإضفاء صبغة ديمقراطية شكلية على الحياة السياسية، وتشير الصحيفة إلى أنه بحسب
ستيفن كوك الخبير في منطقة الشرق الاوسط بمجلس نيويورك للعلاقات الخارجية فإنّ
بذور هذه الخطة بدأت بعد وقت قصير من الاطاحة بحسني مبارك في فبراير 2011 عندما
أمر الجنرالات في مصر بترجمة دستور 1982 في تركيا للغة العربية!
المعضلة
الأخرى والتي ترتبط بطموح العسكر بدورٍ أكبر بكثير في مصر الجديدة هي أنّ الرئيس
مرسي يعتبر رئيساً "منزوع الدسم"، فقد سُلب بحسب التعديل الدستوري
المُكمّل كافة صلاحياته التنفيذية والتشريعية، بما فيها إعادة تشكيل الجمعية
التأسيسية لوضع الدستور، إضافة إلى أن المجلس العسكري أصبح من الواضح أنه لن يقبل
المساس بالوزارات السيادية الثلاث (الدفاع، والخارجية، والداخلية)، كما تم تجريد
الرئيس وفق التعديل الدستوري المكمّل من رئاسة المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه،
ولا يحق له إجراء أية تعديلات على تشكيلة هذا المجلس، بل ولا يملك صلاحية إصدار
الأوامر للمجلس العسكري أو حتى مجلس الدفاع، فالقرار في كليهما بالأغلبية المطلقة،
والرئيس مجرد عضو له صوت كسائر الأعضاء حتى لو ترأس الجلسات شكلياً، الأمر الذي
يجعل من الواضح أن العسكر أصبحوا دولة داخل الدولة وليس ذلك فقط بل هم الدولة
الأقوى والتي تعلو صلاحياتها صلاحيات الرئيس الذي يبدو كألعوبة أو مجرد "ملء
فراغ دستوري" لمنصب الرئاسة.
وكم كان
مستغرباً أن يحلّ الرئيس ضيفاً على المشير طنطاوي وليس العكس وعدم قيام المشير
بتأدية التحيّة العسكرية للـ"الرئيس" ثم في طريقة جلسته خلال اللقاء،
مما يوضح أنّ مصر ستشهد مرحلة طويلة من الشد والجذب بين المجلس العسكري والرئيس
سواء كان مرسي أو من سيأتون بعده!
إنّ مرحلة
الوعود الوردية قد انتهت، فمصر تنتظر خطة انقاذ عاجلة، وإذ نعرف جميعاً أن جماعة
الإخوان المسلمين لا تملك أية خبرة سياسية حقيقية لإدارة دولة متماسكة، فإنّه من
الأولى بالمعرفة عدم أهليتهم لإدارة دولة كبرى تتهاوى سياسياً واقتصادياً بوتيرة
متسارعة، لذا لا يبدو أنّ هناك من أمل للدكتور مرسي إلا بلمّ شمل القوى الوطنية
والتوصل لصيغة تفاهم مع المجلس العسكري لوضع مصر أولاً بعيداً عن صراع الديكة الذي
لن يزيد البلد إلا ضياعاً وتدهوراً ولن ينفعها مطلقاً ماذا يجري في ايطاليا أو
البرازيل!(ميدل إيست أونلاين)
0 التعليقات :
إرسال تعليق