بقلم: صلاح
الدين الجورشي
منذ رحيل بن علي في 14 يناير 2011، خضعت الحياة السياسية التونسية لوقع الاستقطاب الأيديولوجي الحاد بين الإسلاميين والعلمانيين، وذلك بالرغم من التوافق السابق الذي نُحت بين الطرفين في ظل تجربة ما يُعرف بـ"هيئة 18 أكتوبر".
وعندما
باحت صناديق الإقتراع بنتائجها في شهر أكتوبر 2011، وجد التونسيون أن تجربتهم
الديمقراطية الجديدة ولدت مختلة في توازنها الحزبي، إذ في الوقت الذي هيمنت فيه
حركة النهضة على المشهد العام داخل المجلس الوطني التأسيسي والحكومة، ظهرت بقية
الأحزاب ضعيفة ومشتتة.
منذ ذلك
التاريخ، وأحزاب المعارضة تحاول أن تتدارك أوضاعها في اتجاه بناء حزب قوي أو إقامة
جبهة متماسكة تكون قادرة على تعديل موازين القوى. ومن ضمن هذه المحاولات الإعلان
عن تأسيس حزب نداء تونس. هذا الحزب الذي اتسعت رقعة المواجهة السياسية والإعلامية
بينه وبين أنصار حركة النهضة وقادته، حيث صدرت ضد مؤسسه الباجي قايد السبسي
تصريحات مُؤذية وحـادة.
في
المقابل، ازدادت العلاقة بين الطرفين استفحالا بمرور الأيام بسبب التصعيد
المتبادل. وهو ما دفع بقيادة النهضة إلى إتخاذ قرار اعتبره الكثيرون "غريبا
ولافتا للنظر"، يتمثل في مقاطعة الحزب لكل اجتماع أو لقاء يشارك فيه ممثلون
عن حزب نداء تونس، بما في ذلك الحوارات الإذاعية والتلفزيونية. وفعلا، فقد انسحب
وزير الصحة من حصة تلفزيونية عندما علم بوجود شخصية تمثل هذا الحزب الخصم.
عنف
واتهامات ومُناوشات
وللتدليل
على المستوى المتوتر الذي بلغته العلاقة بين الطرفين، اتهم أحد أعضاء المكتب
السياسي لحزب نداء تونس وعضو المجلس الوطني التأسيسي إبراهيم القصاص الفرع الجهوي
لحركة النهضة بمدينة قليبية الساحلية بالوقوف وراء الاعتداء بالعنف الذي تعرض له
خلال محاولته المشاركة في اجتماع تابع لحزبه، وهو ما نفته الحركة، وقررت مقاضاته
بتهمة الإدعاء بالباطل. ويعتبر هذا ثاني اجتماع للحزب تقوم عناصر منضوية تحت غطاء
"لجان حماية الثورة" بمنعه بطريقة عنيفة وغير قانونية.
ومن بين
العيّنات التي تؤكد أيضا تدهور الخطاب بين الطرفين، ما كتبه الأستاذ الجامعي حمادي
الرديسي في سياق تعليله سبب اختياره الانتماء إلى حزب نداء تونس، فقال "تونس
في أيادي عابثة.. متطرفون يتلاعبون بالتصريحات.. غرباء عن رموز البلاد وتراث
الوطن"، مؤكدا أن الهدف من انضمامه هو "إنقاذ تونس من براثن النهضة
وحلفائها".
في مقابل
ذلك، يذكر الناطق الرسمي باسم حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي أن "هناك بعض
التشكيلات التي تعيد إنتاج نظام بن علي وتتشكل من شخصيات تجمعية نافذة ومن فلول
يسارية لم تستفق بعد من يتمها السياسي والأيديولوجي".
وهذه التصريحات ليست سوى مؤشرات قوية تدل على
حرب ساخنة مرشحة للتصاعد بين تنظيمين، أحدهما في السلطة ويعمل على البقاء فيها
لعشرات السنين القادمة، وآخر يستعد لتسجيل نقط لصالحه، معتقدا بأن الرياح تجري
لفائدته.
ومما زاد
في تغذية المخاوف لدى أنصار حركة النهضة تراجع شعبية الحكومة التي يتولون أهمّ
مفاصلها. وهو ما أكده آخر سبر للآراء كشف عن احتمال أن تخسر الحركة ما لا يقل عن
عشرين بالمائة من أصوات الذين منحوها ثقتهم في الانتخابات السابقة. وقد شكك
قياديون في هذه التوقعات، لكن راشد الغنوشي اضطر للاعتراف بذلك، معللا ذلك بقوله
"معروف أن السلطة عامل تهرئة، وهناك فرق بين من يبشر بالمثل ومن يمارسها،
هناك فرق بين من يطلب منه إلقاء خطاب فيه تنكيت ومن هو مطلوب منه أن يوفر الشغل
للناس وأن يوفر الغذاء والأمن والدواء".
قائد
السبسي.. كاريزما وتشكيك
لا يزال من
الصعب التكهن بمستقبل الصراع بين النهضة ونداء تونس، لكن المؤكد أن حزب الباجي
قايد السبسي نجح في شد اهتمام الرأي العام الوطني والخارجي، كما تحول في ظرف وجيز
الى محور أساسي من محاور الجدل والتجاذبات السياسية، بل جعل منه آخر استطلاع للرأي
"القوة الثانية" بعد حركة النهضة، وذلك في ظل احتمال حصوله على نسبة لا تقل
عن عشرين بالمائة من الأصوات خلال الانتخابات القادمة.
هنا يمكن
القول أن الفضل في ذلك يعود إلى عوامل متعددة، من أهمها الشخصية الكارزمية التي
يتمتع بها زعيم هذا الحزب، الذي أخرجته الأحداث من عالم العزلة وجعلت منه وزيرا
أول في مرحلة صعبة من تاريخ البلاد. ومن خصائصه أيضا خبرته الطويلة في مجال إدارة
شؤون الدولة، والنجاح النسبي الذي حققه خلال الشوط الأول من الإنتقال الديمقراطي،
وشبكة العلاقات الدولية التي يتمتع بها، وقدرته الملحوظة على مخاطبة التونسيين،
إلى جانب اعتداله السياسي، وموقفه المتزن والوسطي من الإسلام، مستفيدا في هذا
الشأن من أخطاء الرئيس بورقيبة الذي يرى فيه مرجعا وملهما له.
وتعتبر هذه
الجوانب هامة في مرحلة مضطربة مثل التي تمر بها تونس حاليا، وذلك رغم النقائص
العديدة التي يشكو منها الرجل، والتي يحاول خصومه التلويح بها في معركتهم ضده بهدف
إضعافه، والتشكيك في كفاءته السياسية. وهي نقائص جدية، وقد تؤثر على مستقبل هذا
الحزب الناشئ في ظل أوضاع مضطربة.
عوامل
مغذية للاستقطاب
من العوامل
التي قد تزيد من تغذية هذا الاستقطاب الثنائي، والدفع به نحو زقاق حاد احتمال قيام
قطب انتخابي واسع يضم الى جانب حزب نداء تونس أحزاب أخرى فاعلة في الساحة مثل الحزب
الجمهوري والمسار الديمقراطي الاجتماعي اللذان قد ينصهران معا خلال الفترة القريبة
القادمة. في المقابل، يُستبعد انضمام أحزاب العائلة الدستورية، التي لا تزال تعاني
من الانقسام، ويسكنها الخوف من المستقبل، خاصة بعد أن تبخر أملها في أن يكون حزب
الباجي تجديدا للبورقيبة ومُجمّعا لكل الدستوريين.
في
الأثناء، تسعى حركة النهضة بالتنسيق مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية إلى تمرير
مشروع قانون في المجلس الوطني التأسيسي يُمنع بموجبه المسؤولون السابقون بالحزب
الحاكم السابق من حق الترشح للانتخابات القادمة وممارسة العمل السياسي لخمس سنوات.
إن ما
يخشاه البعض مع دخول حزب نداء تونس بقوة إلى حلبة الصراع، هو أن يتكرر السيناريو
المصري، أي حدوث انقسام عمودي حاد داخل الجسم الانتخابي، وأن يكون هذا الانقسام
أيديولوجيا أي علمانيا - إسلاميا في بعض أبعاده أو بين من هو مع حركة النهضة ومن
هو معاد لها. وبذلك تزداد المسافات بين الطرفين، مع ما قد ينجم عن ذلك من مخلفات
سياسية واجتماعية وثقافية قد تستمر لسنوات طويلة.
هاجس
السلطة.. وضرورة الترشيد
قبل
الثورة، كان جميع الفرقاء السياسيين في تونس ينتظرون رحيل بن علي ليبنوا نظاما
ديمقراطيا يوفر لهم التعايش والتنافس، لكن بعد رحيله المفاجئ هيمن هاجس السلطة على
أصدقاء الأمس، وأصبح كل منهم يرى أنه الأجدر بإدارة الحكم. وهي حالة طبيعية غير
أنها في حاجة إلى ترشيد على أكثر من صعيد.
أولا : لقد
تم نسيان أن الوضع في تونس لا يزال هشا وضعيفا على جميع الأصعدة. فالبلاد تعيش بلا
دستور، ولا تزال المؤسسات في حاجة إلى إصلاحات عميقة، ولم تتم القطيعة كليا مع
آليات الحكم السابق. أي أن مرحلة الانتقال السياسي لم تكتمل بعد، بل هي في خطواتها
الأولى. ولهذا سيكون من الخطأ التعامل مع هذه الظرفية غير المكتملة بمنطق الأغلبية
الحاكمة والأقلية المعارضة والمشاكسة.
ثانيا : الاستقطاب
الأيديولوجي عادة ما يشكل غطاء لإخفاء ضعف البدائل وقلة الكفاءة لإدارة شؤون
البلاد. في حين أن الأحزاب الجادة والمرشحة للبقاء هي تلك التي تؤسس لبديل سياسي
أو مجتمعي يكون قادرا على إقناع المواطنين أو أغلبيتهم. ولذلك فإن تجييش مشارعر
المواطنين لتهيئتم لخصومة واسعة النطاق بعيدا عن أي ثقافة سياسية بناءة، هو عمل
نتائجه غير مضمونة العواقب.
ثالثا :
مراجعة أدوات التنافس، وفي مقدمتها لغة الخطاب التي يطغى عليها التشنج وتبادل
الإتهامات، وأحيانا اللجوء إلى استعمال اللغة السوقية. لقد كشفت الخلافات بين
مختلف الأطراف عن وجود أزمة عميقة في صفوف النخب، ويُخشى إذا لم يتم تنظيم هذا
الخلافات وتحسين أساليبها أن تؤثر سلبيا على المواطنين، وتدفع بقطاع واسع منهم إلى
العزوف عن مجرد الاهتمام بالشأن العام، وسحب الثقة من النخب السياسية، ما يعني أن
من مخاطر استمرار هذا الصراع، احتمال ارتفاع نسبة الذين قد يقاطعون صناديق الاقتراع
في المرة القادمة.
في هذه
الأجواء الساخنة والصعبة، تتجه نية الترويكا الحاكمة نحو الإعلان عن خارطة الطريق
التي تطالب بها المعارضة والمجتمع المدني، وذلك قبل حلول الذكرى الأولى لانتخابات
المجلس الوطني التأسيسي يوم 23 أكتوبر الجاري. ولا شك في أن قرارا من هذا القبيل
من شأنه أن يُهدّئ الأجـواء، لكن استحضار المصلحة العامة، والتعامل بمسؤولية
وعقلانية مع هذه المرحلة يظل شرطا مهما لضمان تحقيق انتقال سياسي بأقل كلفة ممكنة.(سويس
انفو)
0 التعليقات :
إرسال تعليق