بقلم: عبد العزيز الخميس
بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير التي أطاحت بحكم
الرئيس السابق حسني مبارك، توالت على مصر شهور ساخنة خرج فيها الثائر والمحبط واليائس
والقانط والمحتاج، والراغب في دور سياسي إبّان ضجيج الثورة، وبحث من لم يصنعها عن المشاركة
في قطف نتاجها واستغلال فوضويتها.
تلك الشهور التي لا تزال تثقل كاهل مصر لها فاتورة
ذات ثلاثة ملاحق أهمها الاستتباعات الاقتصادية، والتي اقتربت بمصر إلى البحث عن مخرج
لتفادي وقوع اقتصادها في دوامة متعددة الدوافع معروفة النتائج وهي إفلاس البلاد، وعدم
قدرة الحكومة على إطعام الشعب خبز يُصنع من قمح يأتي بعضه هبات من السوق الدولية وعبر
اتفاقات شراء بالعملة الصعبة تزيد من الصعوبات على بلد يئن بطالة، وتوقف العجلة التنموية
واعتماد شريحة كبيرة من الشعب على الدولة كي توفر له لقمة العيش بأسعار مخفّضة ودعم
لا يعوض.
وجد الرئيس الإخواني محمد مرسي نفسه في ورطة كبيرة،
فلا هو نجح في اجتياز أحبولة وضعها لنفسه وهي المائة يوم الأولى، التي وعد بأنها موعد
الخروج من عنق الزجاجة الضيق والذي يزداد ضيقا بسياسات حكومة متردية، ولم يساعد الوضع
السياسي المصري الرئيس المتعب، فإملاء قادة الإخوان بتسريع عجلة استحواذ السلطة جعلت
الحكومة تلهث وراء سلب الامتيازات وتكميم الإعلام والتضييق على القضاء، والأهم من ذلك
عدم توفر حياة برلمانية مقنعة للشعب، فضلا عن نجاح المعارضة في تسليط ضوء مبهر على
فشل مرسي وحكومته مما ساعد في أن تقترب «الزجاجة الإخوانية» من إغلاق كل منافذ النجاة
بنفسها لا بفعل المعارضة.
كانت توقعات الإخوان أن يؤمن ابنها البار محمد مرسي
مسألة أخونة الدولة بسرعة وجعلهم أكثر اطمئنانا، لذلك نأى الجيش بنفسه ووقف متفرجا
وعلى فمه ابتسامة لا يعلم إلا الله مبعثها ومقصدها. لكن الأخونة لم تصطدم بمعارضة رأوها
بائسة وبتراء لا وجود فعلي لها في الشارع، بل فوجئ الإخوان بحجم الرفض الشعبي لهم بل
وما زاد استغرابهم أن الرفض يأتي من الشباب والشرائح الوسطى، وزاد انضمام السلفيين
لموجة الرفض الطين بلة، وهو ما ينذر بسقوط سريع للحكومة.
حيث لم تفد كل العمليات اليائسة العقيمة في دفع عجلة
النمو الاقتصادي قدماً، فقد تباطأت وسط سيل الاحتجاجات وفقدت السلطة هيبتها وأصبحت
الشوارع ملعبا للرفض الشبابي، والمصانع ساحة للإضرابات المطالبة بتحسين الأوضاع، ولم
تتوقف آلة الفساد -التي أدمت وجه مصر الاستثماري- عن الاشتغال.
وجد الرئيس مرسي نفسه يطرق كل باب من أجل أن لا تجد
مصر نفسها دون رغيف خبز. استعان بدول الخليج العربي فقدمت له السعودية أربعة مليارات
دولار ووعدت قطر -صديق الإخوان والممول الرئيس- بتقديم ثلاثة مليارات دولا كسندات خزانة.
بينما وضعت ليبيا ملياري دولار غيرتهما من صيغة «استثمارات» إلى صيغة «ودائع» في البنك
المركزي.
رغم كلّ ذلك تجد مصر نفسها بعد انقضاء أجل الودائع
قصيرة الأمد من قطر والسعودية وتركيا قادرة على تغطية وارداتها من السلع لمدة ثلاثة
أشهر فقط، ولم تنفع كل هذه الوعود والإيداعات في رفع قيمة الجنيه المصري الذي تراجع
بشكل ملفت، حيث يتوقع أن يصل الدولار 7.24 جنيه نهاية هذا العام.
وبقي السؤال المهم، هذه الهوة السحيقة التي ترمى
فيها المليارات لمساعدة مصر هل ستغير واقع مصر في المستقبل؟
وهل بدأت مصر تستذكر عهد الخديوي اسماعيل حين وجد
نفسه أمام استحقاقات مالية لبريطانيا بسبب قروض حفر قناة السويس مما مكن بريطانيا من
الاستيلاء على القرار المصري ثم استعمارها لاحقا؟
تفتق ذهن الخديوي اسماعيل عن فكرة اعتقد أنها جهنمية
وهي دعوة البريطانيين بأنفسهم لفحص مالية مصر وقدراتها وشؤونها، وهذا ما يفعله الآن
الرئيس مرسي في قبوله لوصول مسؤولين قطريين يقدمون لحكومته وللبنك المركزي قائمة طويلة
من الأسئلة الفاحصة لحالة مصر ليست الاقتصادية فقط بل والسياسية والعسكرية وحتى النفسية.
الوفد القطري حامل الأختام والأسئلة والشيكات يشبه
ما سمي في مصر أيام الخديوي اسماعيل «بعثة كيف الإنكليزية لفحص مالية مصر»، وصل «ستيفن
كيف» ذات ديسمبر 1875 إلى القاهرة ومعه أسئلة، كما وصلت الأسئلة القطرية إليها هذه
الأيام.
أسبغ الوفد القطري الذي وصل إلى مصر على نفسه صبغة
الامبراطورية تشبه ما حملته بعثة كيف السابقة، فجاء إلى القاهرة ليطرح أسئلة غريبة
منها: ما هو تسليح وحجم قواتكم؟ ما هي المعاهدات الدفاعية المبرمة مع غيركم من الدول؟
ماذا عن مشكلاتكم الحدودية؟ نريد معلومات عن البنية السكانية والاجتماعية لبلادكم،
كم سيزيد عدد سكان مصر؟ كيف يتم توزيع ثروتكم وما هو المستوى الاجتماعي والاقتصادي
السائد عندكم؟ كم نسبة العمال وهل تتوقعون اضطرابات قريبة؟ ماذا عن نظام المعاشات لديكم؟
ما هي التغييرات المزمع انجازها في دستوركم؟
والطامة الكبرى وصول المندوب السامي «علي بن صميخ
المري» حاملا معه ملاحظات «الامبراطورية القطرية» حول وضع حقوق الإنسان والديمقراطية
في مصر.
هل يوجد عاقل في العالم يستطيع أن يقبل رؤية حقوقية
للوضع المصري من مندوب لا يأتي من أرض عرفت بتميزها في هذا المجال؟ لن يقبل بهذا إلا
من يهتم بنمو الرصيد القطري في البنك المركزي المصري، ولسان حاله يقول، فليفعلوا ما
يريدون وليلقوا الخطب الرنانة ويطرحوا الأسئلة التفصيلية، المهم أن تودع الدولارات
في حسابنا.
هو العجب يحل على أرض مصر التي لا حول ولا قوة لها
تحت حكم الإخوان حيث تأتي الوفود حاملة أسئلة مغرورة ومتعالية، ويرحل الرئيس الذي أقسم
بأغلظ الإيمان أن لا يقابل من يدعم نظام بشار وقام بسرعة «إخوانية» قياسية بتجاهل وعوده،
فزار إيران والصين وروسيا ولم يبق له إلا أن يلتقي بشار نفسه.
في روسيا طلب مرسي من قيصر الروس بوتين أن يقرضه
ملياري دولار، فقطب القيصر حاجبيه وطرحَ بدوره أسئلة امبراطورية تضمنت شروطا حول التعاون
لإنقاذ سوريا وعلى الأصح إنقاذ الحليف بشار، وبالطبع حسب مرسي وقارن بين مليارين وثمانية
مليارات قطرية تسندها مليارات سعودية وليبية وتركية أخرى، ففضل أن يخرج متراجعا إلى
الخلف من بهو الكرملين دون أن يدير ظهره للقيصر.
رحلات الرئيس مرسي الباحثة عن الدعم تجوب العالم
ومندوبيه يستعطفون البنك الدولي كي يساعد مصر، لكن ينسى الخديوي مرسي أن من سيساعد
مصر هو شعبها بعمله وجده واجتهاده وإخلاصه الوطني، وليست دولارات أجنبية تسقط في ثقب
أسود لا قرار له.
مصر هي من ستنقذ نفسها بتكاتف أهلها وخوفهم من أن
يعيدوا ما حصل لبلادهم حينما أذعن الخديوي اسماعيل لبعثة «كيف» البريطانية فوقعت مصر
تحت الاحتلال، وهذه المرة لو أذعن الخديوي مرسي ستقع مصر تحت احتلال من نوع جديد، وبلغة
ماكرة من صديق يدعي أنه شقيق، ولكنه يمنح المال مقابل معرفة كل ما يدور في مصر للإمساك
برقبتها مستقبلا، وقد يمسكها قريبا إذا استمر الخديوي مرسي في ممارسة ضعفه الإخواني
أمام الامبراطورية القطرية التي لا تغرب عنها شمس الدولارات الخضراء.(العرب
اللندنية)
0 التعليقات :
إرسال تعليق