بقلم: إبراهيم الزبيدي
هل صادفكم يوما،
في كتاب أو صحيفة أو منتدى، أن نيوتن أو أديسون أو فرويد أو غوته أو سارتر أو غارودي
أو أي واحد آخر من عظماء العالم الكبار قد ذيل بحثا من بحوثه أو دراسة من دراساته أو
نظرية من نظرياته أو اختراعا من اختراعاته بلقب "العالم" "المخترع"
"المكتشف" "البروفسور" "الفيلسوف"؟
رغم أن أغلب هؤلاء
الذين غيروا وجه العالم كانوا حاصلين على أكثر من شهادة عليا في مجالات اختصاصهم العلمي
والتكنولوجي والفكري والفلسفي، وحتى في الفنون. والتاريخ الذي اعترف بجميلهم وتوَّجَهم
وخلدهم بالريادة والعظمة لم يفعل ذلك لشهاداتهم بل لإبداعاتهم واختراعاتهم وإنجازاتهم
التي لا تقدر بثمن. لقد كانوا مشغولين بترويض عقولهم وقلوبهم وأرواحهم، حتى لم يبق
لهم وقت لثرثرة أو مباهاة ونفخ ريش.
ويبدو أننا، وحدنا،
المولعون بالبهرجة الزائفة ومظاهر العظمة الجوفاء. فليس لدينا إلا القليل من الذين
يحملون شهادات حقيقية غير مزورة ويترفعون عن المتاجرة بها وقشورها دون ثمارها. فحين
يكتب طبيب عربي مقالا بائسا في السياسة، مثلا، أو قصيدة غرام هزيلة مليئة بالأخطاء
اللغوية والعروضية، أو حديثا مملا يسميه "مذكرات" يحرص دائما وأبدا على أن
يضع تحت اسمه، وبالقلم العريض، لقب "الأستاذ الدكتور"، ولا أحد يدري ما علاقة
"دكترة" في الأنف والأذن والحنجرة بمقال عن تفعيلات الخليل بن أحمد الفراهيدي
أو عفيفة اسكندر أو حسن نصرالله؟
هذا مع التذكير بأن
لدينا كثيرين يجاهرون بلقب "دكتور" وهم لم يتجاوزوا الابتدائية أو الثانوية
على أبعد تقدير، ولكن الحاجة أم الاختراع. فواحد يشتريها من سوق مريدي بمدينة الصدر
ببغداد، وآخر يذهب إلى بلغاريا ويحصل فيها على دكتوراه بالفن الشعبي العراقي! وثالث
يسافر إلى لندن شهرا واحدا ويعود حاملا شهادة "دكتوراه" وهو لا يستطيع حتى
كتابة اسمه كاملا وصحيحا باللغة الإنكليزية، وقد يكون اشتراها من أحدى مدارس الدين
الأهلية المنتشرة هناك. ومن المعاصي الكبرى التي لا تغتفر مخاطبة أحد هؤلاء بغير
"أستاذنا" "سيدنا" "مولانا" أو دكتور؟
والشيء نفسه ينسحب
على أسماء الدول. فلا ضير عليك أن تقول: أميركا، كندا، ألمانيا، فرنسا، استراليا، روسيا،
اليابان، الصين، والهند، دون ألقاب ضخمة تتناسب وعظمة هذه الدول العملاقة التي لا يتقرر
مصير الكون دون رأي حكومتها ومزاج مواطنيها.
ولكن دويلات صغيرة
بحجم قرص الطعمية (حسب آخر تقليعة مصرية على دولة قطر) ترفض وتستهجن وتستنكر وتشجب
أي ذكر لاسمها إذا لم يسبقه لقب "دولة". فلا يجوز لك أن تقول قطر أو الكويت
أو إسرائيل، بل عليك دائما أن تُذكر الناسَ أجمعين بأن هذه النقطة الضائعة على خارطة
الكرة الأرضية هي دولة، وليست زنقة من زنقات الأخ العقيد، أو حيا من أحياء نيويورك
أو طوكيو أو بكين. ومصدر ذلك، دون ريب، هو الشعور بالنقص والرغبة الدفينة في تعظيم
الذات والتشبه بالكبار. ولم ننس أن "ملك ملوك أفريقيا القائد الأممي" أطلق
على ليبيا التي لا يزيد عدد مواطنيها على سكان بغداد أو القاهرة أو الدار البيضاء لقب
"الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى". وحسنا فعل الشعب
الليبي حين اكتفى بتسمية دولته الجديدة "ليبيا"، مجردا من كل هراء.
وهكذا دائما. فالقصير
يلقب نفسه بالطويل، والقبيح بالجميل، والبخيل بالكريم، والثعلب بالأسد والجرادة بالفيل،
وهلم جرا، كما يقولون.
ثم ألا ترون كيف
نتسابق على حيازة أعلى برج وأكبر ساعة وأجمل ناقة وأحلى حصان؟ إنها عقدة الشعور بالنقص
والضآلة والصَّغار.
وقد عودنا التاريخ
على أن اللصوص وقطاع الطرق يكثرون، أكثر من غيرهم، من الحديث عن الأمانة. كما أن سماسرة
البغاء أكثر من يتحدث عن الشرف والشرفاء، والمخادع والمحتال والغشاش والكذاب لا يتوقف
عن امتداح الصدق والصادقين.
أما في الدين فحدث
ولا حرج. فألقاب كثيرة تدعو إلى العجب والاستغراب. "الأستاذ الدكتور"
"العلامة" "آية الله العظمى" "حجة الله". ولا يخبرنا
أحد كيف حصل أيٌ من هؤلاء على مثل ذلك اللقب العظيم وهو لم يشهد في حياته غير مدارس
الفقه والحديث؟ فحجة الله وآية الله والعلامة هو فقط من يبلغ من العلم والحكمة مقام
بوذا وكونفوشيوس وزرادشت، أي أقل من مقام الأنبياء والمرسلين بقليل.
أما الذي يسمي حزبه
المدجج بالسلاح بحزب الله ويقتل عباد الله فلن يُغضب أحدا أكثر من إغضابه اللهَ ورسولــَه
والمؤمنين.
أما البدعة الأخرى
التي تدخل في خانة التظاهر، وربما المتاجرة بالدين وخداع الناس، فهي الكي الذي يترك
على الجبين ندبة داكنة سوداء لكي تدل على أن صاحبها يكثر من السجود.
ومثل ذلك استخدامُ
لقب "الحاج" للدلالة على أن صاحبه زار مكة أو القدس وبيت لحم، معتقدا بأن
ذلك يمنحه أفضلية ومرتبة أعلى من الذين لم ُيرزقوا بتلك الزيارة، أو تقية وتجارة ًووسيلة
ارتزاق. وإذا جاز للحاج أن يجاهر بزيارته لمكة أو القدس فمن باب أولى أيضا أن يصبح
لكل مسلم أن يتخذ لقب "المُزكي" و"المُصلي" و"صائم رمضان".
ومن التقليعات المملة
أيضا، وخاصة لدى المتدينين الشيعة، مسالة محابس الشذر والعقيق والفضة التي يتبارون
ويتباهون بأحجامها وألوانها وأشكالها وأثمانها. فهم يستخدمونها للمجاهرة بالتدين، ولاستثمار
تأثيرها الروحي على مواطنيهم، أو للتميز بها عن المتدينين في الطوائف الأخرى.
وربما جاء ذلك تشبها
بالمتدينين اليهود حين يضعون قلنسوة صغيرة سوداء على مؤخرة الرأس لكي تعلن لمن يراها
عن تدين صاحبها، ولكي تكون علامة تنظيمية يتآلف صاحبها مع رفاقه المنتمين لفئة المتدينين
اليهود.
وليس خافيا ما يدور
عندنا من سباق وتنافس في العمائم والعباءات والعصي وأشكالها، وفي سُبح المرجان واليسر
والكهرمان.
كل هذه بدع طارئة
على الدين، ودليل تزمت وتعصب، وربما تخلف أيضا، لا وظيفة لها سوى المظاهر المقصودة
لذاتها لتحقيق منافع دنيوية خالصة. وقد أجمعت الأديان السماوية كلها على أن عدالة الآخرة
ليس فيها مكان للتمايز بعمامة أو بسبحة أو محبس، ولا هم يحزنون.
أما المتدين الحقيقي
فهو الذي يزداد بتدينه تواضعا وبغضاً للدنيا وزهدا فيها. ولكن الظاهر والمعتاد في مجتمعاتنا
المتخلفة أن المتدين يصبح، في الغالب، أكثرنا تمسكا بالدنيا وتكالبا على ملذاتها. والصيغة
الأحق بأن تتبع هي أن ينفق المتدين من ماله على دينه، وليس أن يكسب ماله بدينه.
يحكى عن القاضي أبي
يوسف تلميذ أبو حنيفة والمؤسس الأول للمذهب الحنفي أنه كان فقيراً معدماً رث الهيئة،
وكان أبو حنيفة يصبره على فقره ويقوي عزيمته ويسري عنه فيقول له: ”لا تغتم يا أبا يوسف،
فإذا طال بك العمر فستأكل بفقهك اللوز والفستق المقشور”.
ثم طال العمر بأبي
يوسف فتقلد (بفقهه) منصب قاضي قضاة هارون الرشيد، وأكل بتدينه اللوز والفستق المقشور،
حتى قال ”إن رءوس النعم ثلاثة: أولها: نعمة الإسلام التي لا تتم النعمة إلا بها، وثانيها:
نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها، وثالثها: نعمة الغنى التي لا يتم العيش
إلا بها”!
ومن حكايات الغش
العلمي والأدبي العربي ما يقال عن أصحاب أسماء كبيرة أصبحوا كتابا ومؤلفين ومترجمين
مرموقين ومشسهورين وهم ليسوا كتابا ولا مؤلفين ولا مترجمين، بل هم مصاصو دماء الآخرين.
حيث يقوم الواحد من هؤلاء باستخدام بضعة ٍ من الكتاب والمبدعين المجهولين المحتاجين
للمال ليكتبوا له المقالات والدراسات والقصص والقصائد، ويترجموا الكتب الأجنبية، بعقود
محكمة بين المُستخدِم الغني والمُستخدَم الفقير تمنع البوح بأسرار هذه الصفقة المعيبة،
بأي شكل من الأشكال.
من هؤلاء قائد حزب
سياسي لبناني مهم أقرأ له باستمرارمقالات وتحليلات سياسية تعجبني كثيرا، وقد اعتدت
على رؤية اسمه في صحف مهمة، مرة أو مرات عديدة في الأسبوع. وشاء الحظ ذات يوم أن أكون
ضيفا في منزل صديق لبناني كاتب مبدع من الطراز الأول لم يحالفه الحظ ليصبح مرموقا لدى
الصحف والمجلات والفضائيات فظل يكتب ويبدع ولكن لا ينشر باسمه إلا القليل. ثم جرنا
الحديث، مصادفة، إلى ذلك السياسي الأديب والكاتب العجيب فسألت صديقي: كيف يتوفر لهذا
"الفلان الفلاني" وقت يكفي لكل هذه الكتابات؟ فضحك صاحبي وأخرج لي دراسة
مترجمة عن الانكليزية حول أزمة اليونان الاقتصادية وتأثيراتها المحتملة على اقتصاد
الدول المجاورة، ومنها لبنان، وطلب مني قراءتها، ثم قال: غدا ستقرؤها بتوقيع هذا
"الفلان الفلاني".
ويحدث هذا كثيرا
أيضا في الثقافة والإعلام والموسيقى والغناء. فعندنا، مثلا، في العراق الديمقراطي الجديد،
سادت الفوضى في كل مجالات الحياة، ومنها مهنة الصحافة والإذاعة والتلفزيون. ولأن العملة
الرديئة لابد أن تطرد العملة الجيدة من السوق، فقد خلت الساحة من أصحاب المهنة الحقيقيين
إلا قليلا، وصار عاديا جدا أن تجد كثيرين، جهلة وأميين وأدعياء، يقتحمون عالمَ الصحافة
والإعلام بقوة العضلات أو الحزب أو الزعيم، وأن يخرج منهم رؤساءُ تحرير صحف مهمة، أو
رؤساءُ هيئات إعلامية كبرى، أو نقباء، أو مشرعو قوانين إعلامية وصحفية، رغم أن أحدا
منهم لم يكتب في حياته سطرين بلغة صحيحة، ولم يقرأ سوى أخبار الوفيات والاعلانات وتصريحات
نجوم كرة القدم والفنانين.
حتى أن وزير ثقافتنا
(الحالي) متخصص في علم تفتيت الأحزاب الدينية السياسية، وقد حصل على شهادته الدكتوراه
من لندن، وعلى نفقة مديرية أمن صدام حسين. وهو اليوم أيضا ليس وزير ثقافة فقط بل وزير
دفاع أيضا يرسل جنوده لقتل المتظاهرين في الحويجة، ويهدد بقتل أمثالهم في الرمادي.
فهل يحدث هذا إلا في وطن اللا المعقول؟
وفي الموسيقى عندنا
نسمع كثيرا لقب "الموسيقار" يُطلق على عازف عود عادي جدا ومقلد رديء ومفضوح
لمبدعين آخرين سبقوه، أو على عازف كمان يعزف بجديلة شعره ورقصات خصره الاكروباتية أكثر
مما يعزف بقلبه وروحه. وكلنا يعلم أن الموسيقار هو من يؤلف لأكثر من آلة موسيقية واحدة
في العمل الواحد، كبتهوفن وموزارت وشتراوس.
وأذكر يوما أن مذيعا
في تلفزيون الكويت في أوائل السبعينيات استضاف الملحن الكبير محمد الموجي فقدمه للمشاهدين
بلقب الموسيقار، فرد عليه الموجي برقة وخجل: "أنا ملحن بس. الموسيقار كثيرة علي
يا أستاذ". وتصدم أسماعنا صفات يطلقها فنانون على أنفسهم تثير الشفقة والضحك والبكاء،
مثل "سلطان الطرب" "شمس الغنية" "الامبراطور". وأغرب
ما يحدث في هذا المجال أن أحدهم صار نجما ساطعا في عالم الغناء وتزدحم الشوارع عند
مروره رغم أن صوته أبح وقاصر وعاجز و"خربان"، بكل المقاييس. وأغلب الظن أن
الذين يسمعونه ويطربون لأغانيه صم أو بكم، والله المعين.
إن هذا كله يحدث
فقط عندنا نحن العرب، وقليلا ما يحدث في المجتمعات المتحضرة التي تلتزم الصدق مع النفس
قبل الآخرين. ولو كانت لدينا محاكم متخصصة في قضايا الغش الديني والأدبي والموسيقى
وجرائم الصحافة والإذاعة والتفزيون لكان العشرات، وربما المئات، من نجوم الفن والصحافة
والأدب والدين يقبعون اليوم وراء القضبان محكومين بجرائم الغرور والغش وقلة الحياء.(ميدل
إيست أونلاين)
0 التعليقات :
إرسال تعليق