بقلم: إبراهيم الجبين
ليس غريبا أن يتنشر تعبير (أسرار دولة هيكل العميقة)
في زمن ما بعد حكم الإخوان في مصر، فهيكل الذي يعرف الكثير، وبنى وجوده الاستعراضي
الهائل على قصر من المعلومات، حوّلته من مصدر لها إلى صانع لمناخها وأجوائها، في مصر
التي عرفت الصحافة كما عرفتها المنطقة العربية حديثا.
وللصحافة العربية مسار دام حقا، فمنذ أن بدأت بواكيرها الأولى في القرن التاسع عشر، طورد الصحفيون ومؤسسو الجرائد الأولى في الشرق الأوسط، وأغلقت صحفهم، وبعضهم مات بالاغتيال أو نفي أو سجن كما في حالة المفكر السوري عبدالرحمن الكواكبي الذي مات في القاهرة بدسّ السم له في فنجان قهوة في العام 1902، بعد أن عاش ينتقد السلطان عبر مسيرة طويلة كتب وقتها تحت الاسم المستعار (مسلم حر الأفكار) ولكن آخرين اكتشفوا منذ البداية أن الخير في التصالح مع الشيطان، الذي تجسّد في صور عدّة، قوة احتلال، حاكم عسكري، دولة.. أو رئيس جمهورية فيما بعد، فاختار محمد كرد علي الذي سارع إلى القبول بمنحة مالية من جمال باشا (السفّاح) قدّمها لجريدته (المقتبس) الدمشقية، مقابل تخفيف اللهجة في نقد القمع الذي تتعرّض له سائر البلاد. وفي مصر نشأت الصحافة من تنافر العقل المثقف مع الحكم والتقاليد الاجتماعية والدينية، فكانت وقائع رفاعة الطهطاوي المصرية، ومن أبلغ ما قيل وقتها عن الصحفيين (فلان من أعلم الناس لولا أنه صحفي)!
وللصحافة العربية مسار دام حقا، فمنذ أن بدأت بواكيرها الأولى في القرن التاسع عشر، طورد الصحفيون ومؤسسو الجرائد الأولى في الشرق الأوسط، وأغلقت صحفهم، وبعضهم مات بالاغتيال أو نفي أو سجن كما في حالة المفكر السوري عبدالرحمن الكواكبي الذي مات في القاهرة بدسّ السم له في فنجان قهوة في العام 1902، بعد أن عاش ينتقد السلطان عبر مسيرة طويلة كتب وقتها تحت الاسم المستعار (مسلم حر الأفكار) ولكن آخرين اكتشفوا منذ البداية أن الخير في التصالح مع الشيطان، الذي تجسّد في صور عدّة، قوة احتلال، حاكم عسكري، دولة.. أو رئيس جمهورية فيما بعد، فاختار محمد كرد علي الذي سارع إلى القبول بمنحة مالية من جمال باشا (السفّاح) قدّمها لجريدته (المقتبس) الدمشقية، مقابل تخفيف اللهجة في نقد القمع الذي تتعرّض له سائر البلاد. وفي مصر نشأت الصحافة من تنافر العقل المثقف مع الحكم والتقاليد الاجتماعية والدينية، فكانت وقائع رفاعة الطهطاوي المصرية، ومن أبلغ ما قيل وقتها عن الصحفيين (فلان من أعلم الناس لولا أنه صحفي)!
مصر العشرينات
بين مناخات الفنون والآداب والسياسة، والحرب المعلنة
ما بين طه حسين والأزهر، بسبب كتابه (في الشعر الجاهلي)، أحد أهم وثائق التفكير الحر
العربية في العصر الحديث، ظهر (الأستاذ) وهو لقب اكتسبه فيما بعد وحرص عليه الصحفي
الشاب محمد حسنين هيكل، الذي رأى النور في الريف المصري في العام 1923، في مناخ محتدم،
وفي عزّ اشتداد الصراع ما بين الديوان الملكي والمندوب السامي البريطاني، بعد انتقال
السلطة إلى الملك فاروق، الشاب أيضا، فكانت مصر تعيش فوران الشباب، باندفاعه وحماسه
وبأخطائه أيضا، وكانت الصحافة وقتها ملعب الجميع، ولا بد من القول إن في مصر كانت تشهد
نهضة كبرى لا سيما بعد انتقال محب الدين الخطيب تلميذ الشيخ الأمير طاهر الجزائري أستاذ
ذاك الجيل كلّه، إلى القاهرة من الحجاز بعد تأسيسه مطبعته الشهيرة في مدينة مكّة وإصداره
جريدة القبلة في زمن الحرب العالمية الأولى، وبعد أن كتب الخطيب مقاله (الحرية في بلاد
الأطفال) انتقد فيه كمال أتاتورك فقبضت عليه النيابة المصرية وقضت عليه المحكمة بالسجن
لمدة شهر.
رأى هيكل أن هذا العالم مليء بالإثارة، وأنه ليس
مقدرا له أن يعمل كوالده في تجارة الحبوب، فكما يقول ابن عمه بربري هيكل: جدي حامد
هو عم الأستاذ وهو الذي أصر على تعليمه بعد أن أراد أبوه حسنين أن يعمل معه في تجارة
الحبوب، لكن والدي وقف ضدّه وقال إنه (هيعلمه من جنيه لألف، وخلي بالك الجنيه وقتها
كان يشتري بلد بحالها) ومن هذا التحدي (من جنيه لألف) ذهب هيكل في صنعة الصحافة، محترفا
قواعدها، ومتجاوزا فيها النكد الوجداني الذي رآه في صحافيي ذلك العصر، فانقطع مع أسرته
في حي باب الشعرية في القاهرة في المنزل رقم 174 في شارع الجيش، وعمل في جريدة (الإيجبشيان
جازيت) منذ سنة 1943م وعمره ما يزال عشرين سنة، محررا تحت التمرين في قسم الحوادث،
ثم في القسم البرلماني واختاره رئيس تحريرها، لكي يشارك في تغطية بعض معارك الحرب العالمية
الثانية.
وانتقل سريعا في العام 1949 إلى مجلة (آخر ساعة)
حيث عمل مع الصحفي الوحيد الذي يعترف بفضله عليه، محمد التابعي، ثم غادر المجلة إلى
(أخبار اليوم) واستثمر مهمته كمراسل متجوّل ينتقل بين البلدان، في صقل تجربة الحكايات
لديه، مسافرا من أوروبا الشرقية إلى بلدان إفريقيا جنوبا وحتى كوريا شرقا ثم عاد إلى
(آخر ساعة) رئيسا لتحريرها، في العام 1951، العام الذي كانت تحتدم فيه الأمور وتقترب
من تحولاتها الكبرى في خلع الملك فاروق الأول وتولي الجيش سدّة الحكم، وعاد بعد رحلة
سريعة إلى إيران استغرقت شهرا واحدا فقط بكتاب مثير حمل عنوان (إيران فوق بركان)، ولا
يُعرف على وجه التحديد كيف بدأت العلاقة ما بين هيكل وجمال عبدالناصر، ولكن مما لا
شكّ فيه أن مغامرة هيكل في الاقتراب من الحدث، كان لها الدور الكبير في توطيد تلك العلاقة،
بالإضافة إلى الشكل الذي يقدّم هيكل به نفسه للآخرين، طارحا الاستفادة من حزمة علاقاته
التي أخذ بينيها بسرعة، فاتحا الحدود ومتحللا من عقد ذلك الزمن ومحرمات، وتوطدت علاقته
بالبكباشي جمال عبدالناصر، وصار ظلّه ومستشاره ومخلبه الاستراتيجي والإعلامي ومدبّر
العلاقات العامة التي لا يستطيع عبدالناصر تنفيذها برجالات دولة رسميين.
التحولات الديمقراطية من وجهة نظر هيكل
قاد هيكل في العام 1953 الانقلاب التدريجي، العنيف،
لجمال عبدالناصر على قائد الضباط الأحرار محمد نجيب، الذي عزله مجلس قيادة الثورة بسبب
إصراره على عودة الجيش إلى ثكناته وعودة الحياة البرلمانية، وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية
مع أسرته بضاحية المرج في فيلا زوجة مصطفى النحاس زينب الوكيل، بعيدا عن الحياة السياسية
والإعلام طيلة حكم جمال عبدالناصر، مع منعه تماما من الخروج أو مقابلة أي شخص من خارج
أسرته، حتى أنه ظل لسنوات عديدة يغسل ملابسه بنفسه! وكان هيكل راضيا موافقا مقتنعا
بالتحولات الديمقراطية التي تبدأ هكذا، كما يصفها محمد نجيب في كتابه (كنت رئيسا لمصر):
(لقد خرج الجيش من الثكنات، وانتشر في كل المصالح والوزارات المدنية فوقعت الكارثة
التي لا نزال نعاني منها إلى الآن في مصر، كان كل ضابط من ضباط القيادة يريد أن يكون
قويا. فأصبح لكل منهم شلة، وكانت هذه الشلة غالبا من المنافقين الذين لم يلعبوا دورا
لا في التحضير للثورة ولا في القيام بها). ثم بدأ هيكل بنفسه، بصناعة الديكتاتور الجديد
عبر تقديمه كمثقف ثوري من خلال كتابته لكتاب (فلسفة الثورة) ونسبته إلى مؤلفه جمال
عبدالناصر.
وكان لتلك الفلسفة التي آمن بها هيكل ونظّر لها واستنطق
بها عبدالناصر أن تهدم الحياة الديمقراطية في مصر عاما بعد عام، وفي (فلسفة الثورة)
التي لم تكن لتسويق عبدالناصر بين أحضان جمهور معظمه كان مغيبا جاهلا أو منفيا أو مكموم
الفم، بقدر ما كانت لتسويقه في الغرب وبين يدي من يقرأ وينظر ويتتبع الهمسات، فبالرغم
من الكثير من التنظير للثورة والأوضاع المصرية بين جنبات الكتاب، إلا أن أخطر رسائله
كانت في المقطع الذي يقول فيه جمال (عبدالناصر – هيكل) في كتابه فلسفة الثورة (… ومنذ
أشهر قليلة قرأت مقالات كتبها عني ضابط اسرائيلي اسمه يردهان كوهين ونشرتها له جريدة
"جويشن أوبزرفر"، وفي هذه المقالات روى الضابط اليهودي كيف التقى بي أثناء
مباحثات واتصالات عن الهدنة وقال: لقد كان الموضوع الذي يطرقه جمال عبدالناصر معي دائما
هو كفاح إسرائيل ضد الإنجليز، وكيف نظمنا حركة مقاومتنا السرية لهم في فلسطين وكيف
استطعنا أن نجند الرأي العام في العالم وراءنا في كفاحنا ضدهم) فكانت الرسالة استلهام
عبدالناصر للكفاح الإسرائيلي في سبيل إنجاح قضية اليهود في فلسطين، وإعجابه بهذا النضال
الطويل!
كان هيكل يطير من عاصمة إلى أخرى، مروّجا لجمال عبدالناصر،
وناصحا بفتح (القنوات السرية) معه، متحدثا باسمه، دون حرج، ولم يكن ليتوقع أحد أن شخصية
عبد الناصر الطاغية، كانت لتتقبل هذا التمادي من هيكل لولا أن للأخير دورا كان يؤديه،
بالغ الأهمية، وشديد الخطورة، ويدخل في الاعتبارات الاستراتيجية العليا.
صناعة الدكتاتور.. ودور هيكل
ان هيكل أول من حوّل جريدة الأهرام المصرية، التي
تعدّ من أعرق الصحف العربية والتي أسست سنة 1875 على يد اللبنانيين بشارة وسليم تقلا،
من منبر حرّ إلى ناطق باسم السلطة الحاكمة، وتبعتها الصحف المصرية الأخرى، وفي العام
1956 صنع هيكل من حرب غير متكافئة، انتصارا مصريا، وسمّاه العدوان الثلاثي، وخرج بغنيمة
تأميم قناة السويس، متغاضيا عن حجم الخسائر الكبيرة التي لحقت بمصر، ونفذت إسرائيل
هجومها على سيناء ونشبت الحرب. فأصدرت كل من بريطانيا وفرنسا إنذارا بوقف الحرب وانسحاب
الجيش المصري والإسرائيلي لمسافة 10 كيلومترات من ضفتي قناة السويس مما يعني فقدان
مصر سيطرتها على قناة السويس وحين رفضت مصر نزلت القوات البريطانية والفرنسية في بورسعيد
ومنطقة قناة السويس وانسحب الجيش المصري، ولم يجد عبدالناصر من يدافع عنه سوى الولايات
المتحدة التي مارست ضغطها على بريطانيا وفرنسا للانسحاب الفوري من الأراضي المصرية،
وتم نشر قوات طوارئ دولية في سيناء، وكانت حرب السويس البداية لتحولات المنطقة بعد
أن أصبح عبدالناصر بطلا قوميا، تزامن مع صعوده ظهور الولايات المتحدة الأميركية كقوة
متقدمة في الشرق الأوسط، منهية وجود الاستعمار التقليدي البريطاني والفرنسي.
واستمر هيكل يرافق نجم عبدالناصر الذي بدأ يسطع على
الشرق، فعزّز مشروع الوحدة ما بين مصر وسوريا، ودافع بكل ما أوتي من قوة عن الممارسات
الرهيبة التي وقعت في زمنها، ودخل مفاوضات مختلفة، مع أطراف مختلفة في العالم، مكرّسا
دور الذراع الطائلة لعبدالناصر، وربما كان دوره أكبر بكثير من ذلك، فكان الراعي الفكري
والسياسي للزعيم، العسكري، قليل الثقافة، والذي لم يكن لديه أية علاقات أبعد من انتمائه
للمكتب الخاص والتنظيم السري للإخوان المسلمين، حسبما وثق خالد محيي الدين وغيره، من
الذين قالوا إن عبدالناصر دخل إلى غرفة مرشد الإخوان وممثله وأقسم اليمين وقدّم البيعة،
قبل انطلاقه في مسيرة الانقلاب على الملك فاروق، ولكن هيكل عمل على تصعيد شخصية عبدالناصر
لتصبح مدرسة فكرية وسياسية أطلق عليها (الناصرية) ولتجتاح المنطقة العربية، فيندر أن
تجد بلدا عربيا اليوم لا وجود لحزب ناصري فيه! ويمكننا أن نتخيل ما، كان يمكن أن يحدث
لو توافر لصدام حسين وحافظ الأسد هيكل آخر، لكنّا وجدنا في المشهد السياسي العربي
(صدامية) و(أسدية).
هيكل والقذافي وتحويل الهزائم إلى انتصارات
أخذ هيكل يهبط ويصعد حسب الموجات السياسية التي طافت
بالمنطقة، وفي آخر عهد عبدالناصر، كان لهيكل فضلان كبيران على الناصرية الأول في إعادة
إنتاجه لكارثة العام 1967 حين هزمت إسرائيل أربعة جيوش عربية في ساعات معدودة، واحتلت
سيناء والجولان وغزة والضفة الغربية والقدس وغور الأردن، فكانت فتوى هيكل صانع السياسة
الإعلامية للناصرية بأن يطلق على هذه الكارثة تعبير (نكسة) أي أنها حدث عابر، يمكن
تجاوزه، والمضي قدما في المشروع الذي لم يكن أقل من استعباد الشعوب وإنتاج الدكتاتورية
في أكثر من بلد، وليس أدلّ على هذا من دعم عبدالناصر لتغيير شكل نظام الحكم في اليمن،
وتقديمه الإمكانات العسكرية، والمشاركة بإرسال آلاف المقاتلين المصريين إلى اليمن
(بلغ عدد القوات المصرية المرابطة في اليمن أكثر من 55 ألف جندي حتى العام 1965 بينما
كانت جبهة إسرائيل باردة!)، في الوقت الذي كان شعار عبدالناصر هو الوحدة العربية، بينما
أدّت تدخلاته إلى الكثير من التمزقات في الجسد العربي، ونشأت دول بسبب المشروع الذي
قاده عبدالناصر وكان من الواقفين في ظلاله الخلفية محمد حسنين هيكل. فأورد في كتابه
(لمصر لا لعبد الناصر) الذي صدر في العام 1974 أنه قد ناقش عبد الناصر في موضوع دعم
الانقلاب في اليمن وكانت وجهة نظره أن وضع ثورة عبدالله السلال لا يمكنها من احتواء
العدد الكبير من القوات المصرية التي سترسل إلى اليمن لدعم نظامه، وإنه من الأفضل التفكير
في إرسال (متطوعين عرب من جميع أنحاء العالم العربي) بدلا من القوات المصرية، للقتال
بجانب القوات الجمهورية اليمنية بهدف حماية الحركة القومية العربية.
المأثرة الأخرى لهيكل كانت في تأهيله نظاما دكتاتوريا
جديدا ظهر في المنطقة، فحسب روايته هو، في برنامجه على قناة الجزيرة، أخبره جمال عبدالناصر
أن الانقلابيين المجهولين في ليبيا، يطلبون لقاء هيكل شخصيا، وأنه عليه أن يطير بطائرة
عسكرية فورا لمقابلتهم في قاعدة عسكرية ليبية، وهذا ما كان، فقد سافر هيكل إلى ليبيا
والتقى مع الملازم أول معمر القذافي، وبدأت عملية الإعداد لاستنساخ نظام ناصري، عاش
طويلا وكانت نهايته بعد 42 عاما من الاستعباد والاستبداد شديدة البشاعة.
هيكل ما بعد عبدالناصر
وفي أيام السادات، انحسر هيكل، فقد تبدلت الأدوار،
فانشغل بإصدار الكتب، والتباهي بحيازة أكبر أرشيف للوثائق في المنطقة العربية، وبالأخص
تلك التي لا يمكن الحصول عليها، دون وجود صلات مباشرة مع أجهزة استخبارات كبرى عملت
وتعمل في الشرق، زجّ به السادات في السجن، وكان موقفه من كامب ديفيد ملتبسا غامضا،
فلا هو رفض الاتفاقية، ولا هو أيدها، وكان كتابه (خريف الغضب) الذي صدر بعد سجنه في
العام 1981، ويكتب هيكل بطريقة الروائيين، مستندا إلى أرشيفه الكبير والمنظم بدقّة،
ولكنه لا يتردّد في قذف عشرات المعلومات غير المسندة، والتي توحي بأنه كان ثالث ثلاثة
دار بينهما حوار سرّي كسرده لطريقة إخبار الأمير بندر بن سلطان لعمّه الملك فهد بن
عبدالعزيز بتوقيت بدء عمليات معركة عاصفة الصحراء قال هيكل في كتابه (حرب الخليج أوهام
القوة والنصر): (وفي صباح 16 يناير 1991، استدعى جيمس بيكر السفير السعودي إلى واشنطن،
الأمير بندر بن سلطان، إلى وزارة الخارجية، ليخبره بأن العملية ستبدأ تلك الليلة، السابعة
مساء هنا، الثالثة صباحا، في المملكة العربية السعودية. ومن الفور، اتصل الأمير بندر،
بعد انتهاء مقابلته بيكر، بالملك فهد. وأخذا يتحدثان بضع لحظات. ثم قال السفير، وكأنه
تذكر الأمر، للتو (إن صديقنا القديم سليمان، سيصل في الساعة الثالثة صباحا. وهو مريض،
وسأقوم بنقله، وسيصل إلى هناك، في الثالثة صباحا). فعرف الملك فهد ساعة الصفر. وهكذا،
بدأت (عاصفة الصحراء)!
أما في عهد مبارك، فلم يتوقف هيكل عن انتقاداته لفكرة
التوريث، ولكنه كان قابلا بها في سوريا، وعلى صلة مع بشار الأسد ولم يكن متحمسا للثورة
عليه، غير أنّه وقف مع ثورة الشعب المصري في 25 يناير، ولم يقدّم أي نصح لحكم الإخوان،
وكان يمكن لشخص بحجم هيكل وتأثيره في مصر والساحة الدولية، أن يقود الإخوان إلى تحوّلات
تاريخية لو شاء، ولكنه كان يكتفي باستنكاره بقاء مبارك في الزنزانة والدعوة إلى إطلاق
سراحه.
الانقضاض المصري على ذاكرة هيكل
يعتز الجمهور العربي، بمثقفيه وعامّته، بمتابعة وقراءة
محمد حسنين هيكل، ولكن هذا الولع، ليس قادما من أهمية ما يكتبه هيكل، على أهميته، ولكنه
يتأتى من جذر ثقافة الاستماع والقص والحكواتية التي يطيب للأذن العربية الاستغراق فيها،
وقد دافع هيكل مرارا عن صدق رواياته، مدعما إياها بالوثائق وصور الوثائق، وأرقام الخطابات
وتواريخها، ولكن الأحداث التي عصفت بمصر مؤخرا، وصعود العسكر مجددا، وانهيار المشروع
الإخواني، الاستقطابي الذي عاش عليه هيكل طويلا، فاجأ هيكل والمصريين بما لم يكن متوقعا،
ففي يوم الأربعاء 14 آب – أغسطس من هذا العام 2013 بدأ فض اعتصاميْ رابعة العدوية وميدان
النهضة، وخلال وقت الظهيرة من اليوم ذاته، اقتحمت مجموعات مسلحة عُبئت وجلبت إلى منطقة
(برقاش) الصومعة الخضراء على حد وصف الرئيس أنور السادات لقلعة هيكل، حيث مكتبة وأرشيف
محمد حسنين هيكل وقاموا بقذف زجاجات المولوتوف وإحراق حديقته الأمامية، وأخذوا يدمرون
كل ما في المكان من أثاث وتحف ووثائق، في انقضاض مصري على ذاكرة هيكل، ولم يكن يذكر
أن الشرطة تدخلت لمنع هؤلاء من تنفيذ ما أتوا من أجله، فقاموا بتفجير أسطوانات الغاز،
وحرق المكان بأكمله، بينما كان هيكل يقضي وقته مسترخيا على أحد الشواطئ الإيطالية،
وكانت الخسائر: (الكتلة الرئيسة من الكتب النادرة والوثائق التاريخية، 14 ألف كتاب
من الذخائر العربية والدولية في الاستراتيجية والتاريخ والفلسفة والعلوم الإنسانية
والآداب والفنون الأخرى، نسخة أصلية مرقمة من (800) نسخة من موسوعة (وصف مصر) طبعت
في باريس في عهد نابليون بونابرت، المجموعات شبه الكاملة للوثائق الأميركية والبريطانية
والفرنسية والإسرائيلية الخاصة بمصر والمنطقة، تسجيلات نادرة لشخصيات لعبت أدوارا في
التاريخ المعاصر أعدها هيكل، بنفسه وأؤتمن عليها ولم يسبق أن نشرت نصوصها باستثناء
إشارات إليها أوردها في سياق رواياته وإسهاماته التلفزيونية، من بينها 15 ساعة بصوت
حسن باشا يوسف رئيس الديوان الملكي في عهد الملك فاروق فيها شهاداته واعترافاته، طالبا
ألا تنشر وهو على قيد الحياة، تسجيلات أخرى تولاها القصر الملكي وحاول أن يستخدمها
للإساءة إلى سمعة زعيم الوفد مصطفى باشا النحاس، مناقشات مستفيضة مع الفيلسوف الفرنسي
جان بول سارتر وصديقته الروائية سيمون دي بوفوار، نصوص أصلية بخط يد جمال عبدالناصر
ويومياته في حرب فلسطين في العام 1948 وعلى غلافها بقعة من دمه، مراسلات مصطفى كامل
إلى السلطان العثماني والخديوي عباس حلمي، مراسلات للورد كرومر المعتمد البريطاني إلى
أهله، ومراسلات الفيلسوف البريطاني برتراند راسل- وألفيلد مارشال- البريطاني مونتغمري-
والرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي). ولم تعرف الجهة التي قامت بالاعتداء على ذاكرة
هيكل، ولم يثبت أن الإخوان من المشتبه فيهم، ولا أية أطراف مصرية أخرى، ولم يغفر الشعب
المصري لهيكل، الشخصية الخافية التي اكتشفتها فهلوة الشعب، والسؤال الأهم، لماذا كانت
كل تلك الكنوز التوثيقية محفوظة لدى هيكل بدلا من أن تكون في عهدة الدولة المصرية ومراكزها
القومية؟! وحتى أقرب الناس إلى الناصرية لم يكن يستسيغ مغامرات هيكل المحسوبة والغامضة،
فقد صرّح عبد الحكيم عبدالناصر مؤخرا بأن رواية هيكل عن تسميم والده جمال عبد الناصر،
بفنجان قهوة من يد السادات ما هي إلا تزوير للتاريخ!
وأخيرا.. كثيرا ما عُرف عن هيكل محو آثاره من خلفه
ورغبته بالابتعاد، فلم يكن غريبا، ما روته بوابة الأهرام المصرية الرسمية، نقلا عن
أقاربه في قريته (باسوس) عن امتعاضه من كثرة المساكين من مقرئي القرآن الكريم الذين
كانوا يتوافدون عليه حين يزور قبر والده في القرية، راغبين بتلاوة بعض الآيات على القبر،
مقابل صدقة من الأستاذ، مما دفع هيكل إلى إحضار سيارة إسعاف خاصة لنقل رفات الحاج حسنين
هيكل إلى مكان مجهول.(العرب اللندنية)
0 التعليقات :
إرسال تعليق