"ربيع العرب" بين تعصب الإسلاميين وتفكك القوميين




بقلم: عبد الستار قاسم

انطلقت الثورات العربية بلا قيادات يُشار إليها بالبنان، وكانت في الغالب هبّات شعبية حاولت بعض الشخصيات السياسية والأحزاب أن تلحق بها، ولا غرابة أن بعض التخبط قد شاب العمل الثوري، والكثير منه في مرحلة البحث عن البناء.

القيادة هامة جدا في وضع البرامج وتوجيه العمل، وفي تشكيل عنوان تتطلع إليه الجماهير ويلتف الناس حولها للعبور إلى مرحلة تاريخية جديدة، لكن غياب قيادة واضحة تجمع الناس سبب الكثير من الإرباك في البلدان التي شهدت ثورات حتى الآن.

وربما تكون المقارنة بين إيران عام 1979 ومصر في الآونة الأخيرة مفيدة من حيث إن الانتقال في إيران كان سلسا وسريعا، بينما يسير الانتقال في مصر بتعثر وبطء. فوجود قيادة للثورة في إيران يشكل سببا قويا في تفسير هذا التباين.

الفراغ القيادي على الساحة العربية

يعاني العرب من فراغ قيادي كبير، ويعود السبب الرئيسي إلى فشل الأنظمة الوطنية والقبلية التي أقيمت بعد الحرب العالمية الثانية، أو أثناء خروج الاستعمار الغربي، وكذلك الأنظمة القومية التي أتت بانقلابات عسكرية في تحقيق تطلعات الناس من تقدم واع ومبرمج، وإقامة العدالة الاجتماعية، والسير نحو الوحدة العربية، ومعالجة الهموم العربية وعلى رأسها الهم الفلسطيني.

أحبطت القيادات القائمة الناس بأفعالها الشنيعة من ملاحقات وتبذير أموال وظلم واستعباد، وبات العربي ذليلا يعاني من الهزائم بخاصة الهزائم العسكرية التي قادها القوميون بصورة خاصة.

لم تكن الأحزاب العربية على حال أفضل من الأنظمة العربية، وتلهت بنزاعاتها الزعاماتية، ومصالح قياداتها، ولم تتقن سوى إصدار البيانات الممجوجة والمجترة حول القضايا الآنية التي تواجه العرب عموما أو هذا القطر أو ذاك. ومثلما فقد الناس الثقة بالأنظمة فقدوا الثقة بالأحزاب خاصة الوطنية منها والقومية.

الإخوان المسلمون كبديل

التاريخ يأبى الفراغ وجمود الحركة، ولم يكن مستبعدا تطور حركات وأحزاب سياسية وجهادية تعمل بدافع إحباطي أكثر منه بدافع سياسي عقلاني. فظهرت على الساحة العربية والإسلامية جماعات تبحث عن الانتقام علّ في ذلك ما يخرج العرب من محنتهم وهوانهم. لكن هذه الجماعات ليست مؤهلة للقيادة على الرغم من رغبة أفرادها الجامحة نحو التضحية، فزادت أعمالها الأوضاع العربية تعقيدا.

فقط بقيت جماعة الإخوان المسلمين كجماعة عريقة منظمة ومنتشرة أملا تنظيميا وقياديا وحيدا. فالجماعة تستطيع مخاطبة الناس، ولها جماهيرها، وأثبتت قدرة على البقاء على الرغم من الصعاب التي واجهتها عبر الزمن في عدد من الديار العربية. وعلى الرغم من أنها تلاقي عدم قبول أو رفضا من تيارات قومية وعلمانية وقطرية، فإن الامتناع عن معاداتها ممكن فيما إذا أثبتت قدرتها على بسط العدالة واحترام الآخرين حتى لو كانوا قلة قليلة.

لم يفجر الإخوان المسلمون ثورة واحدة في الوطن العربي على الرغم من أنهم أكبر تنظيم عالمي في هذه اللحظة التاريخية، وإنما لحقوا بالثورات، بجماهير الناس التي تقودها أحاسيسها ومشاعرها الانتمائية، كما لحق غيرهم. لكن الإخوان وجدوا الثورات ترتد إليهم بعد الهدوء، بينما وجد الناس العاديون الذين انطلقوا إلى الشارع بداية أنفسهم تائهين سياسيا، ولا يدرون تماما ماذا يعملون بحصيلة سياسية أتت بها الانتخابات التي طالبوا بها.

نقاط ضعف لدى الإخوان المسلمين

كان فوز الإخوان المسلمين في البلدان التي شهدت ثورات متوقعا، ومن المتوقع أن يفوزوا أيضا في البلدان الأخرى التي ستثور، والسبب الرئيسي يعود إلى جماهيريتهم الواسعة، وإلى عدم وجود منافسة حزبية قوية لهم.

لقد فازوا في تونس ومصر، وقبل ذلك فازوا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهم يشكلون ثقلا جماهيريا واسعا في بلدان عربية أخرى ومن ضمنها الأردن وسوريا. لكن يبدو أن قدرتهم على لمّ الناس، وتحقيق وحدة وطنية على أسس يتفقون عليها مع القوى الأخرى، متواضعة، ومن الممكن أن يدفع ضعفهم هذا القوى الأخرى إلى التكتل لمواجهتهم. تشكل انتخابات مصر مثالا على هذا. أما منابع هذا الضعف الأساسية فيمكن إجمالها في التالي:

أولا: جماعة الإخوان المسلمين جماعة مهادنة وليست صِدامية أو جهادية ابتداء. لا ترفض الحركة الجهاد، وإنما تعتبره فريضة إسلامية، لكنها في سعيها نحو تغيير حال الأمة والتخلص من الأنظمة، ترى أن الاعتماد على التغيير التدريجي أجدى من المواجهة، وشعارها يتلخص في أنها ترخي إن شدت الأنظمة، وتشد إن أرخت الأنظمة. أدى هذا إلى اتهامها في كثير من الأحيان من قبل خصومها بأنها تتعاون مع الأنظمة، وتحاول أن تحصل على امتيازات على حساب الآخرين.

ولهذا ليس غريبا أن الحركة، على الرغم من حجمها الكبير، لم تفجر ثورة واحدة أو أن تنفذ انقلابا عسكريا واحدا، أو أن تواجه السياسات الغربية في المنطقة. استطاع حزب البعث مثلا، وهو الأقل حجما، أن يسيطر على العراق وسوريا، وكاد أن يسيطر على اليمن والأردن، بينما بقيت جماعة الإخوان المسلمين بعيدة عن الحركة، بل اتهمها حزب البعث بأنها تآمرت مع الأنظمة ضده. وهذا منهاج اتضح في فلسطين أيضا من حيث إن المقاومة بقيت بيد الحركات الوطنية، ولم تصعد حركة الإخوان إلا خلال انتفاضة عام 1987 حرصا على مكانتها كجماعة لها انتشارها الواسع بين الفلسطينيين. وحتى بعد ذلك، بقي زمام المبادرة بيد منظمة التحرير، وبيد سلطة الحكم الذاتي.

ثانيا: جماعة الإخوان المسلمين فئوية إلى حد بعيد وتتعصب لذاتها وأفرادها، وبالكاد تنفتح على الآخرين. رغبتها في الانفتاح على الآخرين ضعيفة، وإن انفتحت تبقى قدرتها في صناعة العلاقات العامة ومخاطبة عموم الناس محدودة. إنها لا تتصرف كقيادة للناس، وإنما فقط لأتباعها، وبالتالي تبقى انطوائية إلى حد كبير، والخشية أن تبقى هذه الانطوائية كأسلوب حكم.

ثالثا: تعاني الجماعة من ضعف الصيالة (التكتيك)، وهو ضعف مرتبط بالفئوية بصورة مباشرة. قدرة الحركة التكتيكية ضعيفة، وهي بذلك تضحي بقدرتها الإستراتيجية على البناء الطويل النَفَس. لا شك أن الجماعة ذات صبر وجلد على المواصلة والعمل الدؤوب، لكن ليست ذات خبرة في التعامل مع المستجدات السياسية والصراعات الحزبية، والاستقطاب الظرفي للجماهير خارج إطارها التنظيمي. وإذا كانت قادرة على كسب أصوات في انتخابات فذلك لسببين رئيسيين، وهما: تبنيها للإسلام كفكرة تستقطب مشاعر الناس، ولسوء صنيع وفشل الأطراف الوطنية والقومية.

القوى القطرية والقومية

هناك قوى قبلية تتمثل غالبا بأنظمة حاكمة، وهي قوى فاشلة بالتعريف لأنها لا ترى المصلحة العامة إلا من خلال مصالح القبيلة، وأن أمنها واستمرارها مرتبط بقوى خارجية تعمل دائما على الهيمنة على الوطن العربي واستغلال ثرواته، وستجد نفسها في النهاية في مأزق مع الشعوب التي تحكمها.

هناك قوى وطنية قطرية، ليست قبلية، لكنها أشبه ما تكون بالقبلية مثل النظامين اللذين سادا في تونس ومصر قبل الثورة، والنظام الجزائري القائم حاليا. وهناك القوى القومية التي تنقسم إلى قسمين: أنظمة حاكمة، وأحزاب سياسية مثل نظام العراق قبل الغزو الغربي، والنظام السوري، وإلى حد ما النظام السوداني الذي يصطبغ أيضا بالصبغة الإسلامية. تعاني هذه القوى من عدد من نقاط الضعف منها:

أولا: الأنظمة والأحزاب القومية قادت الهزائم في مواجهة إسرائيل، وهي التي أضعفت ثقة العربي في نفسه زمنا طويلا، وساهمت هزائمها في تثبيت الأنظمة القبلية والقطرية، ووجهت ضربات قوية للفكرة الوحدوية على مستوى الوطن العربي. وهي تتميز بأن فمها أكبر من قدرتها على الفعل بشكل مفرط.

ثانيا: فشلت هذه القوى بتحقيق العدالة الاجتماعية والتقدم الملموس في مختلف مجالات الحياة، مثلها مثل الأنظمة القبلية والوطنية القطرية. جاء القوميون، وفق كلامهم، لينشروا العدل والحرية، فتحولت الدول التي سيطروا عليها إلى مؤسسات أمنية تذبح الناس وتعتدي على ممتلكاتهم وأعراضهم.

ثالثا: حولت الأنظمة القومية البلدان التي سيطرت عليها إلى مزارع خاصة للرئيس وأبنائه وزبانيته المنافقين، ولم تختلف في ذلك عن الأنظمة القبلية إلا في شيء واحد فقط وهو أن قمعها للناس كان أشد وأقسى.

رابعا: يسجل للأنظمة والأحزاب القومية فضيلة واحدة وهي أنها أبقت على لغة الوحدة ومناهضة الاستعمار وتحرير فلسطين، ودعمت المقاومتين اللبنانية والفلسطينية كما هو الحال بالنسبة للنظام السوري. نرى في الدول القومية مصطلحات عربية أصيلة تتناقلها الأجيال. ولهذا نقول إن هذه الأنظمة ليست خائنة مثل الأنظمة الأخرى، لكنها تتميز بجهالات كبيرة تحول بينها وبين النجاح في الدفاع عن قضايا الأمة والمواطن.

تشتت القوى القومية

جماعة الإخوان المسلمين موحدة، لكن القوى القومية مشتتة مفتتة ومتنابزة، ولا يبدو أن لديها الاستعداد لتفكر بمخارج نحو الوحدة. شهدنا الصراع بين النظامين البعثيين في العراق وسوريا، اللذين من المفروض أنهما يقودان الأمة العربية نحو الوحدة. ونشهد الآن تفتت القوى القومية في مصر والأردن واليمن والعراق.

تعاني القوى القومية الحزبية والرسمية من كثرة الزعماء الذين لا يريدون التضحية ودفع ثمن زعامتهم مثل الاعتقال والصدام مع قوى الأمن.. إلخ، ويقوم عدد لا بأس به من الزعماء بالانشقاق لتشكيل أحزاب جديدة إن لم يتسلموا المنصب الأول. يريد الشخص أن يكون زعيما بدون تضحية، ولديه الاستعداد للتضحية بالأمة من أجل مصالحه الشخصية.

في الأردن، هناك أحزاب قومية كثيرة، ويصعب على كل حزب حشد جمهور يمكن أن يؤثر بالشارع الأردني، ونتيجة عجزهم يتهمون جماعة الإخوان المسلمين بأنها لا تتعاون. أما في الشارع الفلسطيني، أوصلت القوى القومية والوطنية القضية الفلسطينية إلى حد الاعتراف بإسرائيل، وتقديم خدمات أمنية لإسرائيل. وبقيت في ذات الوقت تتبجح بمواقفها الوطنية والقومية الصلبة في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.

الترحم على أيام زمان

حاولت القوى الإسلامية والوطنية قيادة الثورات العربية، وعملت على كسب الانتخابات بعد ذلك، لكن الشارع العربي الثائر احتار في التنازع القائم داخل الحركات القومية والوحدوية أولا، وبين القوميين والإسلاميين ثانيا. شارك ابن الشارع العربي في الثورات من أجل تحسين الأوضاع وليس من أجل تنصيب زعامات، وهو كان يتطلع دائما إلى مسؤولين يخدمونه ولا يصعدون على ظهره.

 فهل من الغريب أن يحوز الفريق أحمد شفيق على 24% من أصوات المصريين؟

فقدت جماعة الإخوان المسلمين جزءا كبيرا من مؤيديها في انتخابات الرئاسة المصرية، ولم تستطع الحركات القومية أن تصل إلى المرحلة الانتخابية الثانية، وكأن الإحباط قد نال من المصريين قبل أن يبدأ عهد جديد. لقد ترحم الناس على أيام الملكيات، وترحم بعضهم على أيام الاستعمار، ويجب ألا تدفعهم الأحزاب إلى الترحم على أيام الاستبداد.(الجزيرة نت)
شارك على جوجل بلس

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق